في حركة يائسة استنفدت خلالها كل قوتها وإرادتها، فردت "نشوى" ذراعها عن آخرها.. في نفس اللحظة التي بدأت فيها تلك الأهداب اللزجة القوية، تجذبها نحو الجسم الهلامي المرن...
وضغطت زر جهاز الأشعة...
ومع ضغطتها أطلق الجهاز مزيج الأشعتين البروتونية والأيونية بالنسب التي وضعتها، وأدخلتها نحو منصة الاستقبال بالضبط...
انطلق مزيج الأشعة، فتوهجت كلها، وأغلقت "سلوى" عينيها وهي تصرخ في لوعة:
ابنتي!!...
ولكن الوهج تلاشى في سرعة، وأمكنها أن تفتح عينيها، و...
وصرخت بكل فرحة الدنيا..
فعلى بعد متر واحد منها كانت "نشوى" تقف في ثبات، محدقة في المنصة المعدنية التي تكوم فوقها الجسم الهلامي الذي كان له نفس هيئة الجسم الهائل، ولكنه في حجم قبضة يد طفل صغير...
وبكل لهفة الدنيا هتفت "سلوى":
"نشوى"... أأنت بخير؟!
أشارت "نشوى" إلى المنصة، مجيبة في ظفر:
حمداً لله... ذلك الشيء البغيض انكمش قبل أن يجذبني إليه، فصارت أهدابه أضعف من أن تتعامل مع جسم بشري.
حدقت "سلوى" في ذلك الجسم، قبل أن تقول في توتر:
ولكنه لم يبلغ حجمه الفعلي بعد.
أشارت "نشوى" بسبابتها، قائلة:
أظن أن هذا الحجم هو الذي بدأت به التجربة.
عادت "سلوى" تحدق في الجسم الهلامي، ثم لم تلبث أن هزت رأسها، وهي تقول في لهجة عجيبة تجمع بين الفرحة، والتوتر والحماس:
لا يمكنني أن أصدق هذا.. لا يمكنني أن أصدق أن الأمر كله انتهى بضغطة زر.
ثم التقطت جهاز الاتصال الخاص من حزامها، وهي تردف في حماس وانفعال:
لابد من إبلاغ "نور" و"أكرم"، و...
قاطعهتا "نشوى"، وهي تقول بصوت مرتجف:
أمي.
التفتت "سلوى" إلى حيث تنظر "نشوى"..
إلى المنصة المعدنية، في منتصف المعمل...
ثم اتسعت عيناها عن آخرهما...
فما رأته يحدث أمامها وأمام ابنتها كان مدهشاً...
إلى أقصى حد...
* * *
على الرغم من ثقتهم في أن هذا لن يصنع فارقاً، راح رجال الأمن الثلاثة يطلقون أشعة مسدساتهم نحو ذلك الجسم الهلامي الذي ظل يواصل زحفه، داخل الحجرة وكأنه لا يبالي بالأشعة القاتلة، المنهمرة عليه...
وبكل رعب الدنيا هتف "ممدوح":
لا مفر... سيقتلنا جميعاً... سيقتلنا جميعاً...
صرخ "مجدي" وهو يندفع إلى أقصى ركن في الحجرة:
لن يظفر بنا في سهولة... سنتقاتل حتى آخر رمق.
كانت الأهداب اللزجة الطويلة تزحف نحو ثلاثتهم فصاح "مدحت":
لا يوجد مخرج سوى هذا، وهو يسده بجسمه الضخم... إنه يحاصرنا عمداً..
هتف "مجدي" وهو يواصل إطلاق أشعة مسدسه.
لست أظنه بهذا الذكاء.
صرخ "ممدوح":
لقد قطع التيار الكهربي... ألم تدرك هذا؟!
كانوا يقاومون باستماتة، وعلى الرغم من هذا انزلق الكائن الهلامي داخل الحجرة، واقتربت أهدابه منهم أكثر...
وأكثر..
وأكثر...
ولرعبهم الشديد التصقت الأهداب اللزجة بثيابهم وراحت تجذبهم إلى الجسم الهلامي فصرخ "مجدي":
قاوموا... قاوموا حتى آخر رمق.
كانوا يقاومون في استماتة، ولكن تلك الأهداب اللزجة كانت شديدة القوة وكانت تلتصق بالثياب على نحو عجيب، وكأنما امتزجت بها وصارا كياناً واحداً...
وكوسيلة يائسة، حاول "ممدوح" التخلص من سترته، التي التصقت بها تلك الأهداب، ولكن المزيد منها التصق بساقيه، وذراعيه، وعنقه، وجذبه نحو الجسم الهلامي الشره، فصرخ في انهيار:
لا فائدة... لا فائدة.
فسمع فجأة صوتا قوياً، يهتف:
كم أبغض هذه الكلمة.
امتزج الهتاف بوقع أقدام "نور" و"أكرم" وهما يعدوان عبر الممر الأيمن مسترشدين بوهج أشعة الليزر، وهتف "أكرم" وهو ينتزع قنبلة يدوية تقليدية قديمة في حزامه:
من حسن حظكم أننا قد التقطنا صرخات استغاثتكم عبر أجهزة الرصد.
قالها وألقى قنبلة نحو ذلك الكائن الهلامي، صارخاً:
هيا... ابتلعها أيها الوغد الشرِه.
ارتطمت القنبلة اليدوية بالجسم الهلامي، ثم ارتدت عنه نحو "نور" و"أكرم"؛ فوثب كلاهما مبتعداً، وهما يدركان أن انفجار القنبلة داخل تلك الممرات الضيقة ليس له سوى نتيجة واحدة حتمية...
الموت...
موتهما...
* * *
توقف الدكتور "محمد حجازي" عن فحص تلك العظام التي لفظها الكائن الهلامي، ورفع عينيه إلى "رمزي" متسائلاً:
هل انتهيت من فحصها؟!
أجابه "رمزي" بإيماءة من رأسه، قبل أن يطلق من أعمق أعماق صدره زفرة حارة، قائلاً:
لست أظنهم ينسون ما حدث، حتى آخر دقيقة من عمرهم.
هز الدكتور "حجازي" رأسه، مغمغماً في أسف:
يمكنني استيعاب هذا جيداً.
أشار "رمزي" إلى كومة العظام، متسائلاً:
وماذا عنها؟!
أجابه الدكتور "حجازي":
لقد تم هضمهم عبر إنزيمات خاصة، سريعة التأثير... إنزيمات لا تفرزها سوى... سوى..
تردد في إكمال عبارته، فسأله "رمزي" في قلق:
سوى ماذا؟!
أجابه في تردد:
سوى الكائنات الأولية الدقيقة.
اتسعت عينا "رمزي" وهو يهتف:
رباه... كيف لم أنتبه إلى هذا؟!
سأله الدكتور "حجازي" في قلق:
تنتبه إلى ماذا؟
هبّ من مقعده مجيباً في انفعال:
ذلك الوصف.. الغلاف السميك والجسم الهلامي المرن والأهداب اللزجة الطويلة... إننا نواجه خلية بكتيرية.
حدق فيه الدكتور "حجازي" في دهشة بالغة، قبل أن يتساءل:
خلية ماذا؟!
أجابه بنفس الانفعال:
خلية بكتيرية أولية يا دكتور "حجازي"... خلية تم تكبيرها على نحو مبالغ لتواجه عالمنا... هذه هي تجربة الدكتور "صفوت" التي لم يفصح عنها لأحد.
غمغم الدكتور "حجازي" في توتر:
خلية بكتيرية بهذا الحجم... مستحيل!
هتف "رمزي":
بل هو المنطق بعينه... الرجل حقق نتائج مبهرة، في تجارب تصغير البشر والمادة، ولقد دفعه الشغف إلى إجراء تجربة عكسية.. تجربة تكبير.
قال الدكتور "حجازي" في قلق:
ولكن سلوك ذلك الكائن لا يتفق مع سلوك الخلية البكتيرية الأولية.
أشار "رمزي" بيده، قائلاً:
بالطبع لقد درسنا سلوكها في وسط مائي، أو في مزرعة في بوتقة معملية، أو حتى في بيئتها الأصلية ولكنها انتقلت الآن إلى بيئة جديدة والأشعة التي جعلتها تتضخم.. ربما كان لها تأثير ضخم على نمط سلوكها أيضاً.
ثم قام نحو الدكتور "حجازي" مضيفاً بكل الانفعال:
باختصار نحن أمام كائن جديد تماماًَ... جديد في حجمه، وسلوكه، ونمط معيشته، وحتى في عاداته الغذائية.. كائن لا أحد يدري ما الذي يمكن أن يفعله بعالمنا بالضبط..
أشار الدكتور "حجازي" إلى كومة العظام، قائلاً بصوت مرتجف:
ها هو ذا المصير، الذي ينتظر عالمنا، لو لم نوقف ذلك الكائن عند حده.
وقبل أن يعلق "رمزي" بحرف واحد ارتفع رنين جهاز اتصاله الخاص، فالتقطه في سرعة، وألقى نظرة على الشاشة، قبل أن يضغط زر الاتصال، قائلاً:
هل توصلتِ إلى شيء ما يا "نشوى"؟!
اتسعت عيناه عن آخرهما، وهو يستمع إليها، قبل أن يقول في صوت بالغ الشحوب:
هذا يغير كل شيء بالتأكيد.
ثم أنهى الاتصال، والتفت إلى الدكتور "حجازي"، مضيفا بوجه شديد الامتقاع:
لدينا معلومة جديدة بالغة الخطورة يا دكتور "حجازي".. معلومة قد تعني أننا نشهد بالفعل الأيام الأخيرة في عالمنا هذا... وأن مصيرنا جميعاً لن يختلف عن كومة العظام التي تراها أمامك.
واتسعت عينا الدكتور "حجازي" عن آخرهما...
بمنتهى الرعب.
* * *