للحظة، تجمدت "سلوى" في مكانها تماماً، وهي تحدق في ذلك الكائن البشع الذي غطى المنصة المعدنية كلها، بجسده الهلامي المرن، وراحت أهدابه اللزجة تزحف على الأرض نحوهما...
أما "نشوى" فقد حدقت فيه لحظة في رعب، ثم لم تلبث أن نفضت مشاعرها كلها في عنف، واستدارت إلى جهاز الكمبيوتر الذي يغذي جهاز الأشعة المزدوجة وراحت أصابعها تعمل على أزراره في سرعة حتى انتزعت "سلوى" نفسها من جمودها ورعبها وهتفت وهي تتحرك في توتر نحو باب المعمل:
أسرعي يا "نشوى" ذلك الشيء يطاردنا.
انطلقت بالفعل نحو الباب، ثم لم تلبث أن توقفت، عندما انتبهت إلى أن "نشوى" لم تتبعها، فالتفت إليها، هاتفة:
"نشوى" أسرعي بالله عليكِ.
لم يبدُ حتى أن "نشوى" قد سمعتها، وهي تعمل بسرعة كبيرة، على أزرار كمبيوتر التشغيل، فاندفعت نحوها تجذبها في قوة، وعيناها ترصدان في رعب تلك الأهداب اللزجة التي تواصل زحفها نحوهما، وهي تهتف:
"نشوى"... ماذا أصابك؟!
أجابتها "نشوى" وهي تقاومها في استماته، لتواصل عملها على أزرار الكمبيوتر:
أشعة التصغير.. ذلك الكائن جاء إلى عالمنا بطريق الخطأ، وأنا أحاول تصحيح هذا الخطأ.
كانت الأهداب اللزجة الطويلة تكاد تبلغهما، فتفادتها "سلوى" في ذعر، وهي تصرخ فيها:
هل جننت؟!... الوقت لا يسمح بهذا لو بلغتنا تلك الأهداب فلن يمكننا الإفلات منها أبداً كما أكد كل رجال الأمن.
صاحت فيها "نشوى" في حزم:
اهربي أنتِ يا أمي لديّ خطة مضمونة..
تراجعت "سلوى" في رعب عندما كادت تلك الأهداب اللزجة تظفر بها، وصرخت مرة أخرى:
أيتها المجنونة..
اتسعت عيناها عن آخرهما، عندما رأت تلك الأهداب تقترب بشدة من ابنتها فاندفعت تجذبها إليها بكل قوتها صارخة:
لا.. ليس ابنتي.. لا
القوة التي جذبتها بها، كانت تكفي لدفعها نحوها بالفعل لولا أن بعض تلك الأهداب اللزجة التصق بجسد "نشوى" بالفعل، وجذبها بدوره نحو ذلك الجسم البكتيري الهلامي البشع، في قوة هائلة..
وفي هذه المرة صرخت "سلوى" في رعب ولوعة...
وعبر مركز الأبحاث كله، ترددت صرختها القوية..
بلا أمل..
***
بمنتهى الحذر، دلف "نور" وفريق البحث، إلى الأنفاق السفلية للمركز، وتوقفوا عند بدايتها، يتطلعون إلى الظلام الدامس أمامهم، قبل أن يقول "أكرم" في خشونة لم يتعمدها:
ألا توجد أضواء هنا؟!
أجابه "مدحت" وهو يتجه نحو زر إضاءة في الجدار المجاور:
بالطبع هذه الأنفاق أشبه بمقابر باردة في الظلام..
ضغط زر الإضاءة، فاشتعلت الأضواء عبر الأنفاق، وبدت طويلة ممتدة، على نحو لم يتوقعه "نور" الذي قال في حزم:
سننقسم من هنا، وسنتجه "أكرم" وأنا إلى الفرع الأيسر، في حين يتجه فريقكم إلى الفرع الأيمن، وسنلتقي بعدها هنا مرة أخرى، لو لم نعثر على ذلك الشيء، لنتفقد معاً الفرع الأوسط..
انفصل الفريقان، وتحرك "نور" و"أكرم" عبر الفرع الأيسر الذي بدا رطباً أكثر مما ينبغي، وضيقاً كما وصفه رجال الأمن ويمتد لمسافة طويلة، بدت مخيفة، على الرغم من الأضواء، فتمتم "أكرم":
ألدينا دليل واحد، على أن ذلك الشيء موجود هنا؟
أجابه "نور" وهو يتحرك في حذر: إنه المكان الوحيد الصالح للاختباء..
تمتم "أكرم":
وهل تظن ذلك الشيء بالذكاء الكافي، ليختار منطقة اختباء مثالية كهذه؟!
أجابه "نور":
إنها ليست مسألة ذكاء بقدر ما هي مسألة غريزة... غريزته ستقوده إلى المكان المناسب.
تمتم "أكرم":
أتعشم أن تكون الغريزة هي محرّكه الوحيد.
صمت "نور" بضع لحظات، قبل أن يغمغم:
لا يمكننا الجزم بعد.
في نفس اللحظة التي نطق فيها عبارته، وعندما دخل الممر الطويل، كانت هناك أهداب طويلة لزجة تزحف على الجدار في حذر...
حذر غريزي..
أو حذر ذكي..
***
أطلق "ممدوح" زفرة عصبية، وهو يتحرك مع رفيقيه، عبر الممر الأيمن، وقال وهو يقبض على مقبض مسدسه في إحكام عصبي: يبدو أننا قد أخطأنا، بالتطوّع لهذه المهمة يا رفاق.
أجابه "مجدي" وهو يتلفت حوله في قلق:
هل كنت تفضّل أن نقف ساكنين بينما فريق في المخابرات العلمية يتولى المهمة؟!
زمجر "مدحت" قائلاً:
مستحيل!
أومأ "ممدوح" برأسه في توتر بالغ، وقال:
لم أكن أقصد المعنى الحرفي.
قال "مجدي" في صرامة:
وحتى لو كنت تقصد معنى فرعيا، فضع لسانك في فمك، وأغلق أسنانك عليه.
اقترب ثلاثتهم من حجرة التجمع اليمنى، والتي تعتبر مكاناً مثالياً لاختباء كائن ضخم كهذا، فشهروا أسلحتهم في تحفز، واتجهوا نحو الحجرة في حذر، وتوقفوا عند مدخلها ليتبادلوا إشارات حركية رمزية، ذات معانٍ أمنية معروفة، قبل أن يشير "مجدي" بيده، فقفز ثلاثتهم داخل الحجرة، وأسلحتهم مشهرة بمنتهى التحفز..
ولكن الحجرة بدت خالية تماماً..
فكانت هناك أنابيب ومواسير مختلفة، تمتد بمحاذاة جدرانها وسقفها، مع وحدة تحكم فرعية..
ولم يكن هناك أدنى أثر لذلك الكائن..
وبمنتهى الارتياح، غمغم "ممدوح":
إنها خالية..
أجابه "مدحت":
فليكن.. سنقوم بزرع أجهزة الرصد والإنذار، وتأمين الحجرة كلها، ثم العودة إلى نقطة اللقاء..
بدأ الثلاثة عملهم بالفعل، في حين أرسل "مجدي" إشارة، عبر جهاز الرصد، ليبلغ "نور" و"أكرم" بأن الحجرة اليمنى خالية..
ولقد وصلتهما الرسالة وهما يهمان بدخول الحجرة اليسرى، فتمتم "أكرم"، وهو يجذب إبرة مسدسه في تحفز:
هذا يضعنا أمام احتمال مخيف!
قال "نور" في حسم:
ينبغي أن نتوقّع كل الاحتمالات، في كل خطوة.
وقفا عند باب الحجرة لحظة، تبادلا خلالها بعض الإشارات المتفق عليها، ثم وثبا معاً داخلها وكلاهما يشهر سلاحه، و.....
وكانت تلك الحجرة أيضاً خالية..
باستثناء المواسير والأنابيب، عند السقف والجدران، ووحدة التحكم الفرعية.. كانت الحجرة خالية تماماً..
وبعد لحظات من التلفت الحذر المتوتر، خفض "أكرم" مسدسه، مغمغماً:
لو أن ذلك الشيء يختبئ هنا بالفعل، فهو حتماً عند الحجرة الوسطى.
قال "نور" وهو يبدأ عملية زرع أجهزة الرصد والإنذار:
دعنا نتعشّم هذا.
في نفس الثانية، التي نطق فيها "نور" عبارته تلك، كان ذلك الكائن الهلامي المرن ينزلق، عبر الممرات السفلية، وأهدابه تساعده على شق طريقه، نحو هدف حددته غريزته..
أو جذبه إليه عامل ما..
عامل مجهول..
أو متطور..
المهم أنه قد انزلق، حتى بلغ لوحة التحكم الكهربي..
وعلى الرغم من أنه لم يعِش في هذا العالم من قبل قط، فقد تعامل مع الأمر، وكأنه يقيم فيه من الأزل..
لقد أذاب قفل صندوق التحكم الكهربي، بإفراز عجيب، لم يكن من سماته، في عالمه الأصلي، ثم انزلقت أهدابه إلى صندوق التحكم..
وبينما انتهى فريق الأمن، من تأمين الحجرة اليمنى، وكاد "نور" و"أكرم" ينتهيان من تأمين الحجرة اليسرى، سمع الخمسة صوت فرقعة قوية، في بداية منطقة الممرات..
ثم انقطع التيار الكهربائي تماماً..
تماماً..
ومع انقطاع التيار، انتفض جسد "ممدوح" في رعب، في حين هتف "مجدي"، محاولاً السيطرة على أعصابة:
المصابيح اليدوية.. استخدما المصابيح اليدوية..
وبسرعة أضاء "مجدي" مصباحه اليدوي، ليضيء فراغ الحجرة، أما "ممدوح" فقد عجز عن إضاءة مصباحه في المرة الأولى، فضربه براحته، ثم ضغط زر الإضاءة مرة ثانية..
وفي هذه المرة، أضاء المصباح ..
وانتفض جسد "ممدوح" بمنتهى الرعب.. فمع ضوء المصباح، وعند المدخل الوحيد لحجرة التجمع اليمنى، كان يقف أمامه ذلك الكائن الهلامي البشع.. وكانت الأهداب اللزجة تزحف نحوه..
بمنتهى السرعة.
* * *