على الرغم من مرور ما يزيد على الساعتين، منذ وقع ذلك الحادث الرهيب، ظلت ملامح رجال الأمن الأربعة، الذين عاصروه، تنطق بكل الرعب، وعيونهم الزائغة تشف عما يعتمل في أعماقهم، حتى أن "رمزي" أدار بصره بينهم في إشفاق واضح قبل أن يسألهم في صوت خافت متعاطف:
هل يمكنكم أن تصفوا لي ما حدث بالضبط؟!
عاد الرعب يطّل من العيون، والرجال الأربعة يتبادلون نظرة مذعورة، جعلته يضيف في صوت أكثر خفوتاً وتعاطفاً:
هذا ضروري لإيجاد ذلك الكائن؟!
غمغم أحدهم في صوت مرتجف:
تقصد الوحش.
وافقه "رمزي" قائلاً:
فليكن... سنستخدم هذا المسمى لو أنه يتوافق مع منظوركم له.
عادوا يتبادلون نظرة مذعورة، قبل أن يستجمع بقايا شجاعته ويقول في عصبية:
إنه أبشع شيء رأيناه في حياتنا كلها... بل وحتى في أبشع كوابيسنا إننا لن ننسى أبداً لزوجة تلك الأهداب الطويلة، وهي تلتفت حول زميلنا "بدر"، وتجذبه في قوة هائلة، ليبتلعه ذلك الجسم الهلامي البشع في النهاية.
سألهم في اهتمام:
وما مصيره بعدها في رأيكم؟!
أطل رعب أكثر من عيونهم، قبل أن يجيب الرجل:
كومة من العظام المهترئة... تماماً مثل تلك التي لفظها، بعد أن التهمه... من الواضح أن كيانه البشع لا يحتمل وليمتين في آن واحد.
كانت كلماته تعبر عن عمق المأساة التي عاشوها وعايشوها حتى إن "رمزي" عاد يتطلع إلى وجوههم مرة أخرى في إشفاق، قبل أن ينتقي كلماته جيداً، وهو يسألهم:
أي شيء يشبهه ذلك الوحش بالضبط؟!
هتف أحدهم، والذعر يسيل من كلماته:
لا يشبه أي شيء رأيناه في حياتنا كلها.
وافقه اثنان من زملائه في انفعال، في حين تردد لحظة لم تغب عن عيني "رمزى" الخبيرتين، فالتفت إليه وتطلع إلى عينيه مباشرة دون أن ينطق بحرف واحد، فارتبك الرجل وقال في عصبية:
ماذا تريد بالضبط؟!
جاوب "رمزي" سؤاله بآخر، في هدوء شديد:
ماذا تريد أنت أن تقول؟
ارتبك الرجل وتردد أكثر.. فواصل "رمزى" محاولاً تهدئة مخاوفه الشديدة:
لاحظ أن أية معلومة مهما بدت تافهة يمكنها أن تقودنا إلى إيقاف ذلك الوحش قبل أن يلتهم المزيد من البشر.
تردد الرجل لحظة أخرى، ثم لم يلبث أن حسم أمره واندفع يقول:
إنه يذكرني بصورة ما... صورة درسناها في المرحلة الابتدائية، وشاهدناها تحت المجهر في المرحلة الإعدادية، ولكننا لم نرها قط بهذا الحجم الهائل.
سألة "رمزي" في اهتمام بالغ:
صورة ماذا؟!
عاد الرجل إلى تردده لحظات أخرى، قبل أن يتطلع إلى عيني "رمزي" مباشرة مجيباً بصوت عصبي مرتجف:
البكتيريا.
واتسعت عينا "رمزي" هذه المرة... عن آخرهما...
* * *
"ياللهول!...."
هتفت "سلوى" بالكلمة في انزعاج شديد، شاركتها فيه ابنتها "نشوى" وهي تقول بدورها:
هذا جنون! كيف يقدم الدكتور "صفوت" على تجربة بهذه الخطورة دون دراسة كافية، ودون أن يبلغ السلطات الرسمية؟!
هزت "سلوى" رأسها قائلة:
الفضول العلمي يا صغيرتي... لقد ملكه الفضول والشغف لمعرفة النتائج حتى إنه سعى لإخفاء الأمر عن الجميع خشية أن يمنعوه من إجراء تجربته.
قالت "نشوى" في حدة:
ولكن هذا صنع مواضع قصور عديدة في تجربته... لقد انبهر بما حققته أشعة التصغير عندما نقلتكم جميعاً إلى سطح علبة المياه الغازية وجعلتكم في حجم الذرة* ومن الواضح أنه عند عودتكم صحبتكم خلية بكتيرية، دون قصد وتضخم حجمها لتصبح مرئية للعين المجردة كما تقول مذكراته العلمية التي أخفاها داخل ملف سري في الكمبيوتر الخاص.
غمغمت "سلوى" وهي تعاود فحص جهاز الأشعة.
لم يتصور أن خبيرة مثلك يمكنها أن تستخرج أدق أسراره، مهما كانت براعته في إخفائها.
قالت "نشوى" في حنق:
هناك أشياء عديدة لم يتصورها فلقد أجرى تجربته دون الاستعانة بعالم بكتريولوجي يمكنه استنتاج تأثير أشعة التكبير العكسية على سلوك ونشاط بكتيريا خرجت من عالمها الفعلي إلى عالم لم تعتد مواجهته والتعامل معه... ثم إنه كان ينبغي أن يستعين بخبير بيولوجي لتحديد مدى تأثير أشعته المزدوجة على طبيعة النمط الغذائي للبكتيريا في عالمها الجديد.
تمتمت "سلوى" في مرارة:
وها هي ذي النتائج... هو لقي مصرعه والبكتيريا مختفية، بطبيعتها الوحشية الجديدة في مكان ما هنا، و...
بترت عبارتها بغتة عندما أطل رعب هائل من عيني "نشوى" وهي تحدق في نقطة ما خلفها في سقف المعمل فاستدارت في سرعة لتنظر إلى حيث تحدق "نشوى".. وما أن فعلت حتى انطلقت من حلقها شهقة رعب...
فعبر فتحات التهوية في السقف، كان ذلك الجسم الهلامي ينزلق إلى سطح المنصة المعدنية التي أحاطها بأهدابه اللزجة الطويلة....
أهدابه القاتلة...
* * *
فرد "مجدي" أحد أفراد فريق البحث خريطة الأنفاق السفلية لمركز الأبحاث العلمية أمام "نور" و"أكرم" وزميله "ممدوح" و"مدحت"، وهو يقول:
هذا تخطيط أولي للانفاق، وكما ترون بها ثلاثة أماكن فحسب يمكن أن يختفي فيها ذلك الشيء أما الباقي فهي ممرات ضيقة تحوي عشرات من المواسير والأنابيب ولا تصلح للاختباء*.
غمغم "أكرم" في شيء من العصبية:
إنها تبدو لي شديدة التعقيد، إلى الحد الذي يصعب حفظه.
أجابة "ممدوح":
هذا صحيح لذا فسنستخدم هذه الخريطة فقط لنضع خطة البحث، وكأن كل منا سيحمل جهاز رصد خاص، يحوي نسخة إليكترونية من الخريطة ووسيلة لتحديد موقع حاملة منها طوال الوقت.
غمغم أكرم:
هذا أفضل.
أما "أنور" فقال في حزم:
مادامت هناك ثلاثة أماكن فحسب لاختفاء ذلك الشيء فسننقسم إلى ثلاث فرق.
أجابه "مدحت" في حزم متوتر:
مستحيل!
التفت إليه "نور" بنظرة صارمة فتابع في عصبية:
نحن خمسة أفراد فحسب، نواجه كائناً نجهل الكثير عن طبيعته وقدراته ودرجة ذكائه وشراسته في مواجهة الخطر.. لذا فقد رأينا أنه من الأفضل أن نعمل معاً ونتفقد الأماكن الثلاثة كفريق واحد وعندما نتأكد من خلو أحداهما نعمل على تأمينه، وتزويده بأجهزة رصد وإنذار خاصة ترتبط بالأجهزة التي سنحملها.
قال "نور" في صرامة:
هذا يعني ضياع ضعف الوقت على الأقل أما لو انقسمنا إلى فريقين فسنوفر وقتاً ثميناً قد يكون الفارق بين حياة أو موت العديدين.. ثم إن كل دقيقة يغلق فيها مركز الأبحاث تعني خسائر فادحة وتجارب غير مكتملة، وخروج من سباق التطور المحموم.
غمغم "ممدوح":
ماذا تقترح إذن أيها القائد؟!
شد "نور" قامته، مجيباً بلهجة قوية، تتناسب مع قائد مثله:
مادام عددنا فردياً فسننقسم إلى فريقين، وسنتفقد مكانين في آن واحد، فإذا ما وجدناهما خاليين، فسنجتمع معاً في المكان الثالث والأخير بعد تأمينهما.
سألة "مجدي" في قلق:
وماذا لو أن ذلك الشيء يختبئ في أحد المكانين؟!
أجابة "نور" في حزم:
عندئذ نكون قد وفرنا الكثير من الوقت، وحددنا هدفنا بأسرع وسيلة ممكنة.
تبادل الرجال الثلاثة نظرة متوترة فقال "أكرم" في حزم، وهو يستل مسدسه، ويلوح به:
أظن هذا يحسم الأمر.
قال "مدحت" في توتر:
فليكن... ولكننا سنعمل نحن الثلاثة كفريق..
قال "نور" في حسم:
عظيم... وسنمثل أنا و"أكرم" الفريق الثاني... وإذا ما عثر أحدنا على ذلك الشيء سينذر الفريق الآخر، عبر جهاز الرصد.
وافق الثلاثة بإيماءة من رءوسهم، ثم اتجه الخمسة نحو مدخل الأنفاق السفلية، وقد راودهم جميعاً شعور قوي بأن الساعات التالية ستكون رهيبة إلى أقصى حد..
* راجع العدد الأول من سلسلة الإنترنت بعنوان "قلب الذرة"
* * *