تسعت عينا "رمزي" في ارتياع، وهو يتابع ما تفعله "نشوى"، قبل أن يهتف مستنكراً:
ماذا تفعلين بالضبط؟!
أجابته دون أن تلتفت إليه:
أحاول دخول الكمبيوتر المركزي.
هتف في ارتياع:
- هل جننت؟! إنها جريمه عظمى، وفقاً للدستور الجديد، ولو تم رصد ما تفعلين، فسوف...
قاطعته في حزم:
- لن يتم رصده... اطمئن.
هتف:
- ومن أدراك؟!
أجابته، وأصابعها تعمل في سرعة:
لقد شاركت في وضع برامجه الرئيسية، وهناك ثغرات لا يعلمها سواي.
تساءل في عصبية:
- ولماذا لم تبلغيهم بها؟!
أجابته في سرعة:
توقعت يوماً كهذا.
حدق فيها بمنتهى الاستنكار، قائلاً:
ماذا دهاك يا "نشوى"؟!... كيف تتجاوزين كل قواعد الأخلاقيات العلمية، على هذا النحو؟!
أجابته في حدة:
دعنا نناقش هذا فيما بعد يا "رمزي" أما الآن، فاتركني أستجمع كل قدرتي على التركيز، في محاولة لاستعادة المفقودين.
كلماتها جعلته يتراجع في ضيق، ويجلس في مقعد في آخر الحجرة، وجعلت سؤالاً مهماً ينطلق في ذهنه....
ترى هل يمكن بالفعل استعادة المفقودين؟!
هل؟!
هل؟!
* * *
انتفض الدكتور "صفوت" انتفاضة عنيفة، قبل أن يفتح عينيه بحركة مباغتة، ويحدق في وجه "سلوى" التي زفرت في توتر مغمغمة:
- حمداً لله.... لقد عدت.
سألها، وهو يحاول النهوض.
- من أين؟!
جلست إلى جواره مجيبة:
لقد فقدت الوعي لأكثر من ساعة، وأرهقتني بشدة، وأنا أجري لك الإسعافات اللازمة.
حدق فيها مرة أخرى، وهو يشعر بتهالك شديد، وسألها:
- كيف أتيت؟!
حاولت أن تبتسم، وهو تجيب:
بالوسيلة نفسها التي أتت بك... لقد كررت التجربة، بنفس المعطيات.
هتف مندهشا:
وهل جرؤت؟!
غمغمت:
كان لابد وأن أفهم.
زفر، مغمغماً:
آه... الفضول العلمي النمطي... أعرفه جيداً.
تطلعت إليه لحظة، قبل أن تسأله:
بمناسبة الحديث عن الفضول العلمي... هل تعلم أين نحن بالضبط؟!
أومأ برأسه إيجاباً، وتنهد، قائلاً:
لن يمكنك أن تتخيلي.
سألته في قلق:
لقد نقلنا مزيج الأشعتين الأيونية والبروتونية، إلى عالم آخر... أليس كذلك؟!
أجابها محاولاً الاسترخاء:
بلى.... وليس عالماً تقليدياً.
تضاعف قلقها وهي تسأله:
وكيف؟!
بدا لحظات وكأنه متردد في إلقاء ما لديه، أو كان يتصور أن الأمر يفوق قدرتها على الاستيعاب، فقالت في عصبية:
لا تنسَ أنني عضو في أهم فريق علمي.
أومأ برأسه متفهماً، واعتدل، قائلاً:
اسمعيني جيداً.... منذ الأزل كان الأقدمون في الحضارات البدائية، يؤمنون بأن كل شيء في الكون يسعى لتكوين دائرة ما، أو كرة ما، ولقد تلقينا هذا الفكر منهم، ولم نتوقف عنده كثيراً على الرغم من كشفنا أن تكوين الدائرة أقرب ما يكون إلى تكوين مجموعتنا الشمسية، وأن تلك تدور في دائرة أكبر هي مجرتنا المعروفة باسم سكة التبانة أو المجرة كلها تدور في حلقة أكبر مع مجرات أخرى، وهكذا.*
غمغمت:
أي طالب في المرحلة الثانوية يدرك هذا.
أشار بيده قائلاً:
كلنا ندركه كحقيقة علمية ولكننا لم نتوقف عند فلسفة أضخم وأكبر وأعمق... فلسفة تقول إن كوننا كله بما فيه من كواكب وأقمار ومجموعات شمسية ومجرات مجرد ذرة، في كون آخر أضخم وأشمل وهو بدوره ذرة في كون ثالث وهكذا.
حدقت فيه بدهشة، مغمغمة:
لم أسمع مثل هذه النظرية من قبل قط.
ابتسم في تهالك قائلاً:
هذا لأن غرور الإنسان يمنعه من تصور أن كل ما بلغه من شأن، لا يساوي شيئاً في خلق الله -عز وجل- وأنه في النهاية مع كونه كله، مجرد ذرة، في كيان أعظم.
حدقت فيه مرة أخرى بمنتهى الدهشة قبل أن تسأله في حذر:
وما شأن هذا بما نحن فيه؟!
هز رأسه قائلاً:
اتصال الدوائر المتداخلة، فنحن لسنا أصغر أو أكبر مرحلة منها... هناك عوالم تفوقنا، وعوالم تصغرنا بكثير... حتى الذرة نفسها، بتكوينها الحالي يمكن أن تضم عوالم عديدة في إليكتروناتها، تماماً مثلما تضم كواكب المجموعة الشمسية عوالم مختلفة.
اتسعت عيناها، وهزت رأسها مرة أخرى في عنف، قائلة:
- لا يمكنني استيعاب هذا.
تسللت عيناه بعيداً خلفها في قلق، وهو يقول بصوت مرتجف:
ولست أعتقد أن لدينا الوقت الكافي للشرح.
فهناك تحت السماء الحمراء، كانت مجموعة من تلك الكائنات الهلامية الضخمة تقترب منهما...
وبسرعة مخيفة...
للغاية...
* * *
لم يستطع "أكرم" كتمان غضبه العنيف، وهو يقاوم تلك الشبكة بكل قوتها والكائنات الوحشية تقترب منه ومن "نور"...
وكما اعتاد أخرج مسدسه، وأطلق رصاصاته نحو الكائنات...
ولكنها لم تتوقف...
كانت رصاصاته وكأنها تغوص في مستنقع آسن سميك، فتصدر صوتاً مكتوماً والكائنات تواصل طريقها نحوهما...
أما "نور" فقد ظل صامتاً ساكناً، على الرغم من وقوعه في الأسر...
كانت تلك الكائنات التي تصورها عاقلة تبدو عجيبة الشكل على نحو غريب للغاية...
تبدو أشبه بنباتات خضراء ولزجة، ذات أهداب طويلة...
أما الشبكة التي بدت معدنية، فكانت مصنوعة كلها من نبات ما، له رائحة أشبه برائحة المستنقعات....
وفي عصبية، هتف "أكرم":
هل سنستسلم يا "نور"؟!
أجابه في هدوء مستفز، في مثل هذه الظروف:
كلا بالطبع.
صاح به:
لماذا لا تقاوم إذن؟!
رفع "نور" ساعته وهو يغمغم:
لا تقتصر المقاومة دوماً على العنف..
نطقها، وضغط زر صغيراً في ساعته، فانبعث منها رذاذ خفيف، تحول في سرعة إلى بخار أحاط بهما معاً وحجب الرؤية لحظات، صرخ "أكرم" خلالها في غضب وهو يعجز عن تصويب مسدسه:
ياه... ماذا فعلت بالله عليك؟!
ولكن البخار اتسع في هذه اللحظة..
واتسعت معه عينا "أكرم" في شدة....
فالكائنات الخضراء الوحشية كانت تبتعد وتنسحب...
وتتراجع..
في هدوء، أخرج "نور" مطواة، وراح يقطع الشبكة النباتية، فسأله "أكرم" في عصبية:
لديك تفسير... أليس كذلك؟!
أجابه "نور":
نعم لكن لن يروق لك.
ثم التفت إليه، وهما يتحرران في الشبكة، مضيفاً:
لقد أدركت هوية هذا العالم العجيب..
وكانت مفاجأة...
قوية..
* * *
* حقيقة علمية
* * *