انبعث ضوء بنفسجي هادئ، داخل تلك الأسطوانة الشفافة، التي هبطت بها "نشوى"، إلى مقر القائد الأعلى للمخابرات العلمية، والتي توقَّفت بها أمام باب معدني، انبعثت من أعلاه حزمة من أشعة خاصة، فحصت ملامحها في لحظات، ثم تركَّزت على قزحية عينها، قبل أن يقول صوت أنثوي آلي هادئ:
- "نشوى نور الدين"، من الفريق العلمي الأوَّل.
انفتح الباب المعدني في بطء، إثر العبارة، وظهر القائد الأعلى، وهو يجلس خلف مكتبه، فدلفت "نشوى" إلى حجرته، وسمعته يسألها في هدوء رصين:
- لماذا طلبت مقابلة عاجلة يا سيِّدة "نشوى"؟!
أجابته "نشوى" في حزم، جعلها أشبه بوالدها:
- لقد واجهنا موقفاً غامضاً يا سيدي.
غمغم القائد الأعلى:
- هذا لا يدهشني.
قالت في حسم:
- ربما يختلف الأمر هذه المرة.
أشار بيده، قائلاً:
- إنه يختلف بالتأكيد، وإلا ما طلبت أنت المقابلة، بدلاً من والدك كالمعتاد.
شدَّت "نشوى" قامتها، قائلة:
- ربما لهذا بالذات أتيت يا سيدي.
وفي سرعة، وبكلمات موجزة، ودون الدخول في تفاصيل علمية معقَّدة، شرحت له "نشوى" ما حدث، واستمع هو إليها، في مزيج من الاهتمام والانزعاج، قبل أن تنتهي، قائلة:
- ولقد حاولت تحليل معطيات التجربة، إلا أن قدرات أجهزة الكمبيوتر المتاحة، لم تمنحني نتائج مرضية.
سألها في لهفة:
- ماذا تطلبين إذن؟!
أجابته في سرعة:
- استخدام الكمبيوتر المركزي، الخاص بمركز الأبحاث العلمية الرئيسي، وبكامل طاقته.
اتسعت عينا القائد الأعلى لحظة، ثم تراجع في مقعده، وشبك أصابع كفّيه أمامه، وهو يفكِّر في عمق، قبل أن يقول:
- لا شك في أننا مستعدون لبذل أي جهد ممكن، من أجل استعادة المقدِّم "نور" وزوجته، والدكتور "صفوت" كذلك، ولكن استخدام الكمبيوتر المركزي يقتصر على حالات الدفاع عن البلاد، ضد غزو خارجي فحسب، وفقاً للمرسوم الخاص، الذي أصدره رئيس الجمهورية.
قالت في عصبية:
- ولكن تحليل التجربة لن يتأتى، إلا باستخدام الكمبيوتر المركزي، الذي شاركت في...
قاطعها القائد الأعلى في حزم:
- للأسف، لا يمكنني السماح لك بهذا.
امتقع وجهها، وهي تهتف معترضة:
- ولكن يا سيدي..
قاطعها مرة أخرى:
- رئيس الجمهورية وحده، يملك صلاحية هذا.
قالت على الفور:
- فليكن.. سأعرض الأمر على سيادة الرئيس شخصياً.
تنهَّد القائد الأعلى، قائلاً:
- سأحاول الحصول لك على موعد قريب، للقاء السيد الرئيس، و...
قاطعته "نشوى" هذه المرة، دون أن تنتبه إلى مخالفة هذا للنظم، ولكل أصول اللياقة:
- كلا يا سيدي.. الأمر لا يحتمل الانتظار.
قلّب كفيه، قائلاً:
- ماذا يمكننا أن نفعل إذن؟!
التقطت نفساً عميقاً، وأجابت في حزم:
- سأحاول استخدام الإمكانيات المتاحة.
وانعقد حاجباها، وبدت أكثر صرامة وغموضاً، وهي تضيف:
- كل الإمكانيات المتاحة.
ولسبب ما، شعر القائد الأعلى بالقلق..
منتهى القلق..
* * *
لحظات، ويلتهم ذلك الكائن الهلامي اللزج "سلوى"، على الرغم من اختفائها بين الصخور..
لحظات فحسب..
فذلك الكائن كان ينزلق في خفة مدهشة، ويتشكَّل مع الفراغات بين كل الصخور الفيروزية، ويزحف نحوها، ويحاصرها..
ولم يكن هناك سبيل واحد للفرار..
وفي مرارة، هتفت "سلوى":
- مستحيل!.. مستحيل أن تكون هذه هي النهاية!
كان الدكتور "صفوت" قد فقد الوعي أو كاد، وذلك الكائن يحيط بها، و...
وفجأة، ارتجَّت تلك البلورات الزرقاء والأرجوانية..
ثم انقضت..
لم تنقض على "سلوى"، التي أطلقت صرخة قوية..
ولكنها انقضت على ذلك الكائن..
انقضت عليه، من كل صوب، والتصقت بأجزاء مختلفة من جسمه، وعادت ترتجف وتنتفض، كما لو أنها قد استعادت الحياة بغتة..
وأمام عيني "سلوى" الذاهلتين، تراجع الكائن الهلامي في سرعة، كما لو أن تلك الأجسام البلورية تؤلمه..
وبسرعة، أخذ يتراجع..
وينكمش..
ويتصلَّب..
وبحركات سريعة عجيبة، اخترقت البلورات جسده الهلامي، وغاصت في كيانه..
وظهر المزيد منها..
والمزيد..
والمزيد..
وفي لحظات قليلة، كانت تغطي جسده تماماً، بأعدادها الهائلة..
وعلى الرغم من غوص عشرات منها في داخله، وعلى عكس أبسط القواعد، راح الكائن ينكمش..
وينكمش..
وينكمش..
ثم توقَّفت حركته تماماً..
وهنا، انشق جسمه، وخرجت منه مئات من البلورات، ذات ألوان زرقاء وأرجوانية، وحمراء باهتة..
وفي لحظة واحدة، تفرَّقت كلها، وابتعدت عن المكان..
وفجأة، ساد هدوء..
هدوء عجيب..
مثير..
مهيب..
ولثوان، بمقياس ذلك العالم، لاذت "سلوى" بصمت مبهور، ثم لم تلبث أن انتفضت، وكأنما تستفيق من حلم طويل، والتفتت إلى الدكتور "صفوت"، هاتفة:
- أين نحن بالضبط؟!
ولكنها لم تتلقَ أي جواب..
لقد فقد الدكتور "صفوت" وعيه تماماً.
ووفقاً لذلك الشحوب، الذي غمر وجهه، كان يبدو وكأنه يحتضر..
ويلفظ أنفاسه... الأخيرة..
* * *
"لا يمكن أن يكون هذا حقيقة"..
غمغم "أكرم" بالعبارة، وهو يحدِّق ذاهلاً في ذلك البناء، الذي بدا من بعيد، أشبه بقلعة قديمة، على قمة جبل..
قلعة لا تتفق مع أية قلاع تاريخية معروفة، إلا أنها تشترك معها في أبراج الأركان، وذلك المبنى الرئيسي في المنتصف، والأسوار العالية المنيعة..
وفي صوت شديد التوتر، غمغم "نور":
- أتعلم ما يعنيه هذا؟!
أجابه "أكرم" في عصبية:
- أننا في خطر.
هزَّ "نور" رأسه نفياً، وهو يجيب:
- بل، يعني أنه توجد هنا كائنات عاقلة.
ردَّد "أكرم" مبهوتاً:
- عاقلة؟!.. مثلنا.
غمغم "نور":
- أتعشَّم هذا.
ثم التقط نفساً عميقاً، وأضاف:
- ولا توجد سوى وسيلة واحدة، لمعرفة هذا.
وأشار بيده، نحو تلك القلعة القديمة، مكملاً:
- أن نذهب إلى هناك.
حدَّق "أكرم" فيه بدهشة مستنكرة، قبل أن يهتف:
- "نور".. هل أتلفت تلك الأشعة خلايا عقلك، أم أنك صرت تعشق المخاطر؟!
أجابه "نور" في حزم، وهو يتحرَّك بالفعل:
- لا هذا ولا ذاك يا صديقي.. فقط طرحت على نفسي سؤالاً.. ماذا لو أن "سلوى" هناك.
التقى حاجبا "أكرم"، وهو يقول:
- في هذه الحالة، يختلف الأمر.
وعاد يسحب مسدسه، مستطرداً:
- وسنذهب معاً، ونواجه أية مخاطر ممكنة، و...
فجأة، وقبل أن يتم عبارته، سقطت على رأسيهما شبكة معدنية، والتصقت بجسديهما على نحو عجيب، فصرخ "أكرم":
- رباه!.. ما هذا؟!
وفي تلك اللحظة بالذات، ظهرت تلك الكائنات..
العاقلة..
على نحو وحشي.
* * *