في موقعه، داخل ذلك النفق الضيق، قبع الدكتور "صفوت" صامتاً، مصدوماً من النتيجة التي توصَّل إليها..
فمع تزايد ثاني أكسيد الكربون، والرائحة التي تملأ أنفه، وتتسلَّل إلى مخه، والهدير الذي يصم أذنيه، أدرك ماهية مكان تواجده..
وأصابه هذا بصدمة..
صدمة عنيفة..
لقد أجرى حساباته بمنتهى الدقة، ولم يتوقَّع ما وصلت إليه الأمور..
أبداً..
لقد تجاوز الأمر كل حساباته..
وتوقعاته..
وحتى آماله..
وها هو ذا، يواجه نتائج تجاوزه..
ها هو ذا يختبئ في فجوة صغيرة، وتطارده بلورات أرجوانية، لو ظفرت به، فستلتهم كيانه بلا رحمة..
الواقع أنه لا يدري ما الذي يمكن أن تفعله به بالضبط!..
إنه يعرف طبيعتها..
وسلوكها..
وربما فصيلتها أيضاً..
ولكنه عاجز عن استنتاج كيفية تعاملها معه..
في وضعه هذا..
كانت تلك البلورات الأرجوانية تعدِّل من شكلها؛ حتى يمكنها الانزلاق خلفه، في ذلك الممر الضيق، في نفس الوقت الذي تختنق فيه أنفاسه، بثاني أكسيد الكربون..
ولم يكن من الممكن أن يبقى في موضعه..
كان لابد له من الخروج، أياً كانت النتائج..
وهذا يعني مواجهة البلورات الأرجوانية..
والكائنات الرهيبة..
وذلك العالم الغامض..
ولثوان، بمقياس عالمه الجديد، درس الموقف كله، ثم اتخذ قراره..
سيواجه البلورات الأرجوانية..
أياً كان الثمن..
ومع حسم أمره، دفع جسده مرة أخرى إلى أعلى، ورأى البلورات، وقد حوَّرت هيئتها، وصارت زرقاء اللون، وتندفع نحوه..
وكانت المواجهة..
* * *
بمنتهى الذهول، حدَّق "أكرم" في وجه "نور"، قبل أن يغمغم:
- أنا عبقري؟!..
أجابه "نور":
- بالطبع يا صديقي.. ربما ترفض العلم، وتميل إلى الواقعية الهمجية المباشرة..
هتف "أكرم" مستنكراً:
- أنا؟!
أكمل "نور"، وكأنه لم يسمعه:
- ولكن فطرتك عبقرية.
هتفت "نشوى"، تسأل والدها في لهفة:
- ما الذي توصَّلت إليه يا أبي؟!
التفت إليها "نور"، هاتفاً:
- الانعكاس.
لم يفهم أحدهم ما يعنيه هذا، فتابع في حماس:
- جواب السؤالين.. لماذا اختفت "سلوى"، كما اختفى الدكتور "صفوت"، ولماذا لم تصغر علبة المياه الغازية؟!.. والجواب كان أبسط من توقعاتنا، ولهذا أسقطنا مرة أخرى، في فخ الفيل والنملة.. رحنا نبحث عن حلول علمية معقدة، ولم ننتبه إلى مبدأ علمي بسيط.. الانعكاس.. انظروا إلى علبة المياه الغازية، وستلاحظون أنها ذات سطح فضي لامع.. سطح أشبه بمرآة عاكسة صغيرة.
غمغمت "نشوى":
- يا إلهي!.. هل تعني يا أبي أن...
قاطعها "نور" في انفعال:
- بالضبط.
قال "أكرم" في حدة:
- هل المفترض أن نفهم شيئاً من هذا؟!
أجابه "نور":
- بالتأكيد.. لقد أطلقت "سلوى" الأشعة، نحو علبة المياه الغازية، وهي تقف في نفس الموضع، الذي كان يقف فيه الدكتور "صفوت"، وبرد فعل بسيط للغاية، لم تمتص علبة المياه الغازية الأشعة، بل انعكست عن سطحها اللامع، وأصابت "سلوى".
هتف "رمزي":
- آه.. فهمت.. إذن فقد تركَّز تأثير الأشعة على "سلوى"، وليس على العلبة.
أشار "نور" بسبَّابته، هاتفاً:
- بالضبط.. وربما تغيَّرت طبيعة الأشعة وتأثيرها أيضاً، مع ذلك الانعكاس.
قالت "نشوى" في حماس:
- يمكننا دراسة هذا، عبر برنامج كمبيوتر جديد.
شدَّ "نور" قامته، وقال في حزم:
- ليس بعد.
حدَّقت "نشوى" فيه بدهشة، وهتفت مستنكرة:
- ولكن أمي اختفت، و...
قاطعها في حزم صارم:
- ولهذا قلت: ليس بعد.
ثم شدَّ قامته أكثر، متابعاً:
- لقد افترضنا أن تلك الأشعة، بعد انعكاسها، ربما تكون قد نقلت الدكتور "صفوت"، و"سلوى" إلى عالم آخر، في بعد مختلف.
تمتمت "نشوى":
- على الأرجح.
التقط نفساً عميقاً، وقال:
- في هذه الحالة، لا يمكنني أن أترك زوجتي وحدها، في مواجهة عالم عجيب، يعلم الله "سبحانه وتعالى" وحده، أي خطر يمكن أن تواجهه فيه.
حدَّق الجميع فيه بدهشة، قبل أن يقول "أكرم" في عصبية:
- ما الذي ترمي إليه بالضبط؟!
امتقع وجه "رمزي"، وهو يقول:
- سيلحق بزوجته.
لم يستوعب "أكرم" العبارة في حينها، فعاد يحدِّق في "نور"، متسائلاً في عصبية أكثر:
- ماذا يعني هذا؟!
أجابته "نشوى" بصوت مرتجف:
- والدي يرغب في إعادة التجربة، لتنقله الأشعة إلى حيث نقلت الدكتور "صفوت" وأمي.
هتف "أكرم" مستنكراً:
- إلى عالم آخر؟!
أجابه "نور" في حسم:
- وإلى الجحيم نفسه، لو اقتضى الأمر، ما دمت سألحق بزوجتي فيه.
هزَّ "أكرم" رأسه في حدة، وقال:
- "نور".. ربما بدا لك هذا رومانسياً إلى حد كبير، ولكنني لن أسمح لك بالتضحية بنفسك، على هذا النحو.
أجابه "نور" في صرامة:
- اعتبره أمراً يا "أكرم"، وواجبك يحتم عليك طاعة الأوامر، مادمت عضواً بالفريق.
هتف "أكرم":
- سأستقيل فوراً، لو اقتضى الأمر، ولو...
قاطعه "نور" بإمساك كتفيه بغتة، وتطلَّع إلى عينيه مباشرة، وهو يقول في حزم:
- اسمعني جيداً يا صديقي.. لن أعتبر هذا أمراً، ولكنه رجاء.. رجاء من صديق إلى أعز أصدقائه.. زوجتي ربما تكون في خطر بالغ الآن، ولن يمكنني أن أجلس هنا، وأتركها تواجهه وحدها، في عالم أجهل كل شيء عنه.
بدا وكأن "أكرم" قد تجمَّد تماماً، وهو يحدِّق في عيني "نور" مباشرة، في حين تابع هذا الأخير، بصوت مختلج:
- ربما كان هذا الأمر ينطوي على خطر بالغ، ولكنني لا أستطيع البقاء بعيداً عنه.. لابد وأن أذهب خلفها.. لابد وأن أعمل على حمايتها، مهما كان الثمن.
خفض "رمزي" وجهه في تأثُّر، وسالت الدموع من عيني "نشوى" في صمت، في حين ظلّ "أكرم" يتطلَّع إلى عيني "نور" بضع لحظات أخرى، قبل أن يرتجف صوته، وهو يتمتم:
- أنا يا "نور".. أنا حقاً أعز أصدقائك.
حاول "نور" أن يبتسم، وهو يتمتم:
- ألديك ذرة شك في هذا يا صديقي؟
لم تستطع "نشوى" كتمان انفعالها، في هذه اللحظة، فاندفعت تلقي نفسها بين ذراعي والدها، وتجهش ببكاء حار.. فاحتواها "نور" بين ذراعيه في حنان، وهمس:
- هيا.. علينا ألا نضيع المزيد من الوقت.
مسحت دموعها، وهي تنتقل إلى جهاز الأشعة، واتخذ "نور" موقعه، وهو يقول في حزم:
- استخدمي المعطيات نفسها.
غمغمت، وهي تضغط الأزرار:
- المفترض أن تنعكس الأشعة إلى موضعك مباشرة.
أمسكت الذراع، وغمغمت:
- استعد يا أبي، عند رقم ثلاثة.. واحد.. اثنان..
تابعها "أكرم" في توتر، ثم أمسك مقبض مسدسه في قوة، وهو يقول في عصبية:
- فليكن.. ولِمَ لا؟!
ثم اندفع نحو "نور"، في نفس اللحظة، التي أضافت فيها "نشوى"، وهي تجذب الذراع:
- ثلاثة.
وبوثبة واحدة، ألقى "أكرم" نفسه في مسار الأشعة..
وانطلق ذلك الوهج الرهيب يغمر الحجرة..
بمنتهى القوة.
* * *