في مزيج مدهش، من الحذر والدقة، راحت "سلوى" تراجع كل حرف، من البرنامج الجديد، الذي استخدمه الدكتور "صفوت"، لتصغير علبة المياه الغازية، موضوع تجربته الغامضة..
ولم يكن هناك أمر، يمكن أن يؤدي إلى اختفائه العجيب..
صحيح أنه استخدم مزيجاً قوياً من الأشعة الأيونية والبروتونية، إلا أن ذلك المزيج كان موجّهاً مباشرة إلى علبة المياه الغازية، وهناك ستة مجسًّات إليكترونية، تضمن هذا التوجيه، وكلها كانت تعمل بكفاءة تامة، عندما انطلقت الأشعة..
وهذا يجعل الأمر أكثر غموضاً..
فمع كل هذه الدقة، لماذا لم يتم تصغير الهدف؟!..
لماذا لم تصغر علبة المياه الغازية؟!..
وأين اختفى الدكتور "صفوت"؟!..
أين؟!..
أين؟!..
"ألم ينحسم الأمر بعد؟!.."..
ألقى "أكرم" السؤال في عصبية، فهزَّت "سلوى" رأسها في حدة، قائلة:
- ليس بعد.
ثم التفتت إليهم، مستطردة في توتر:
- وفقاً لما أجده، كان ينبغي أن يسير كل شيء على ما يرام، ولكن الواقع يؤكِّد العكس.
انعقد حاجبا "نور"، وهو يغمغم:
- هذا يتناقض مع أبسط منطق علمي.
لوَّح "أكرم" بذراعه، هاتفاً:
- فليذهب المنطق العلمي إلى الجحيم إذن.
هتفت "نشوى":
- خطأ.. إننا فريق علمي، وينبغي أن...
قاطعها "أكرم" في حزم:
- ينبغي أن نكون مرنين، بما تقتضيه الظروف.. لقد جربنا المنطق العلمي، ولم يوصلنا إلى شيء.
سأله "نور" في اهتمام:
- ما الذي تقترح اختباره إذن؟!
أجابه في سرعة:
- التجربة والخطأ.
بدت الدهشة على وجوه الجميع، فيما عدا "نور"، الذي تمتم في توتر:
- هل تعني أن...
قاطعه "أكرم" في انفعال:
- بالضبط.. أن نعيد التجربة، بنفس المعطيات التي استخدمها الدكتور "صفوت".
بدا الاهتمام على "سلوى"، وهي تقول:
-هل تعتقد هذا؟!
وقالت "نشوى" في حماس:
- هذا أسلوب علمي بحت.
غمغم "رمزي":
- ولكنه بالغ الخطورة.
أضاف "نور":
- بالضبط.
ولكن "سلوى" استدارت، تضغط أزرار الأجهزة في حماس، وهي تقول:
- ابتعدوا عن علبة المياه الغازية.
التفت إليها الكل في قلق، وهم يتراجعون، فأضافت:
- والأفضل أن تغادروا الحجرة كلها.
قال "نور" في حزم:
- سنبقى.
قالت، وحماسها يتزايد:
- الدكتور "صفوت" كان وحده هنا، ومن الضروري أن نعيد التجربة، بنفس المعطيات.
هتفت "نشوى":
- وماذا لو أن مزيج الأشعة قد نقله بالفعل إلى عالم آخر؟!
همَّت "سلوى" بقول شيء ما، ولكن "نور" سبقها، قائلاً بمنتهى الحزم:
- في هذه الحالة، أفضِّل أن ننتقل كلنا.
رفعت "سلوى" عينيها إليه، في امتنان صامت، ثم أمسكت ذراع جهاز الأشعة المزدوجة، وهي تتمتم:
- فليكن.
وفي حزم، جذبت الذراع..
وانطلق مزيج الأشعتين، الأيونية، والبروتونية..
انطلقا من فتحتين مختلفتين، في جهاز الأشعة الضخم، ثم امتزجا على مسافة سنتيمترات قليلة منه، واتحدا في حزمة واحدة، انطلقت عبر توجيه المجسَّات الستة، نحو علبة المياه الغازية مباشرة..
ثم حدث ذلك الوهج..
وهج قوي، شديد، غمر الحجرة كلها، وأجبر الجميع على إغلاق أعينهم لحظات، قبل أن يفتحوها، ويحدقِّون في لهفة، في علبة المياه الغازية..
ومع دهشتهم البالغة، كانت العلبة في موقعها كما هي..
أما "سلوى" فقد اختفت..
تماماً..
* * *
صاعقة رهيبة، أصابت جسد "سلوى" وعقلها..
مزيج الأشعتين، تجمَّع في حزمة واحدة، وارتطم بعلبة المياه الغازية، ثم أطلق ذلك الوهج الرهيب..
ومثل الباقين، أغلقت "سلوى" عينيها..
ولكن العجيب، أن هذا لم يوقف الوهج..
لقد شعرت بتلك الصاعقة تضرب كيانها كله، وبآلاف المطارق تهوي عليها، من كل صوب..
وانطلق ذلك الوهج..
انطلق في عينيها..
وعقلها..
وكيانها كله..
شعور رهيب، ذلك الذي سرى، في كل خلية من جسدها..
شعور بالألم..
والاعتصار..
والانضغاط..
ثم طار جسدها..
شعرت به، وكأنه يطير، وسط بحر من أضواء قوية مبهرة، تخترق جمجمتها، وعظامها..
كأن جسدها يتحطَّم..
وينطحن..
وينسحق..
ثم فجأة، تلاشى كل هذا..
وأظلمت الدنيا كلها..
كل شيء توقَّف بغتة، دون سابق إنذار، حتى تصوَّرت أنها قد لقيت مصرعها..
وأن هذا هو الموت..
ولكن فجأة، انقشعت الظلمة، وأضيئت الدنيا كلها مرة أخرى..
ووجدت نفسها في ذلك العالم..
عالم عجيب، بسمائه، ورماله، وصخوره الفيروزية..
وفي ذهول، أدارت عينيها فيما حولها..
إنه عالم آخر بالفعل..
ذلك العالم، الذي افترضوا وجوده..
العالم، الذي انتقل إليه حتماً الدكتور "صفوت"..
وبكل ذعرها، هتفت:
- لقد نقلتني الأشعة إلى عالم آخر.
بدا لها صوتها ضائعاً، في فراغ هائل، على الرغم من كل ما تراه حولها، و...
وفجأة، لمحت تلك الأجسام الضخمة، من بعيد..
أجسام هائلة، تقترب في بطء..
ولثوان، لم يمكنها تمييزها..
ثم رأتها، تبرز من خلف الصخور الفيروزية..
وانتفض جسدها كله في رعب..
وانطلقت تعدو، وقد بدأت رحلة الفرار، في ذلك العالم الرهيب..
الغامض..
* * *
"مستحيل!.."
هتف "نور" بالكلمة في ارتياع، عندما فوجئ باختفاء زوجته، واندفع إلى حيث وقفت، وتلفَّت حوله، وكأنه يمكن أن يجدها في مكان ما، قبل أن يهتف:
- أين ذهبت "سلوى"؟!
امتقع وجه "نشوى"، وهي تجوب المكان ببصرها، قبل أن تقول في ارتياع مماثل:
- لقد نقلتها الأشعة، إلى نفس العالم، الذي نقلت إليه الدكتور "صفوت".
غمغم "رمزي" ذاهلاً:
- ولكن كيف؟!.. كيف؟!
سحب "أكرم" مسدسه، وقال في عصبية:
- هل ترون هذا علمياً؟!
قال "نور" في عصبية:
- هناك تفسير ما حتماً.. تفسير منطقي.
صاح "أكرم" في حدة:
- "سلوى" اختفت أمام أعيننا.
تمتم "رمزي":
- عقب الوهج مباشرة.
أشار "نور" بسبَّابة مرتجفة إلى علبة المياه الغازية، قائلاً:
- والعلبة لم تتأثَّر.
كرَّر "أكرم"، في عصبية بالغة:
- ألهذا أيضاً تفسير علمي؟!
التقى حاجبا "نور"، واقترب من علبة المياه الغازية، ومال يفحصها في توتر بالغ، وجال ببصره في سطحها اللامع، فقال "أكرم" في حدة غاضبة:
- لن تجد عليها سوى انعكاس صورتك يا صديقي.
اعتدل "نور" بحركة حادة، فأضاف "أكرم" في عصبية:
- وهذا لن يؤذيك حتماً.
استدار إليه "نور" بحركة سريعة، وأمسك كتفيه، هاتفاً:
- رباه!.. "أكرم".. أنت عبقري.
واتسعت عينا "أكرم" عن آخرهما، ولكنه لم يفهم شيئاً..
أي شيء!.
* * *