جمَّدت يد "أكرم"، قبل أن تلمس علبة المياه الغازية، وشارك الكل نظرة الدهشة العارمة، التي رموا بها "نور"، قبل أن تهتف "سلوى" في توتر:
- مِم يحترس بالضبط يا "نور"؟!
أجابها "نور"، وهو يتحرَّك بمنتهى الحذر:
- من الأثر يا عزيزتي.. الفيل الذي لم تنتبه إليه عيوننا، على الرغم من وضوحه السافر؛ لأننا انهمكنا في البحث عن النملة.
قال "أكرم" في عصبية:
- أي فيل وأية نملة؟!.. حلقي جاف للغاية، وأحتاج إلى رشفة من تلك المياه الغازية، قبل أن أزهد في المياه كلها.
أجابه "نور"، وهو يشير بيده في حزم:
- السؤال الحقيقي هو: هل بقيت مياه غازية، كالتي نعرفها؟!
حدَّق الجميع في علبة المياه الغازية لحظة، ثم نقلوا بصرهم إلى "نور"، وهتفت "نشوى" وحدها:
- رباه!.. لقد فهمت.
استدارت عيونهم إليها، فأضافت في حماس:
- العلبة بقيت مكانها.
أشار إليها "نور"، قائلاً:
- بالضبط.
ثم التفت إلى الآخرين، مستطرداً في انفعال:
- الشيء الذي غفل الكل، حتى نحن، عن الانتباه إليه، بسبب الانشغال باختفاء الدكتور "صفوت" المفاجئ، هو أن العلبة، موضوع التجربة الرئيسية، لم تصغر أو تنكمش، كما كان يتحتم.. لقد اختفى منفذ التجربة، وبقي موضوعها لم يمس.
اتسعت عيونهم جميعاً في دهشة، وهتفت "سلوى":
- رباه.. هذا صحيح.
وقال "رمزي" مبهوتاً:
- إنه تطبيق مدهش للنظرية يا "نور".. الكل انشغل بحدث غامض، ولم ينتبه إلى غياب الحدث الرئيسي.
اقترب "نور" من علبة المياه الغازية في حذر، وهو يقول:
- دعونا إذن نعيد صياغة السؤال، والعملية كلها من الأساس.. لماذا لم تنكمش علبة المياه الغازية، على الرغم من أنها كانت هدفاً لأشعة التصغير الأيونية؟!
أسرعت "سلوى" تقول:
- ربما لم تُصِبها الأشعة بالفعل.
أجابتها "نشوى" مفكرة:
- يمكننا إعادة عرض الفيلم المسجل، ولكنني أذكر أنها كانت موجهة إليها بالتحديد.
قالت "سلوى" في إصرار:
- ولكننا لا نعلم ما الذي أضافه الدكتور "صفوت"، في تجربته الأخيرة، التي كان يجريها، قبل أن يختفي مباشرة.
أشار "نور" إلى كمبيوتر الدكتور "صفوت"، قائلاً:
- أراهن أنه عدَّل بعض المعطيات، في التجربة الأخيرة، وربما كان هذا سبب الوهج المبالغ.
اتجهت "نشوى" نحو كمبيوتر الدكتور "صفوت"، وهي تقول في حزم:
- هذا أمر يمكن التيقن منه.
شغّلت الكمبيوتر، وبدأت عملها عليه بالفعل، في حين قالت "سلوى" بتفكير عميق:
- لو أنه غيَّر معطيات إطلاق الأشعة الأيونية، فهناك احتمال أنه لم ينكمش كما تصوَّرنا.
سألها "نور" في اهتمام:
- ماذا أصابه إذن؟!
أجرت بعض معادلاتها على أجهزتها، ثم رفعت رأسها إليه، وهي تجيبه في توتر:
- ربما نقلته الأشعة إلى مكان آخر.
غمغم "نور"، في مزيج من التوتر والحذر:
- مكان آخر.
أومأت "سلوى" برأسها، وقالت:
- نعم.. بعد آخر، أو...
بترت عبارتها لحظة، قبل أن تضيف:
- أو عالم آخر..
واتسعت عينا "نور"..
عن آخرهما..
* * *
فجأة، انتبه الدكتور "صفوت" إلى تلك الفجوة..
ممر صغير، بين الصخرة الفيروزية، والأرض الخضراء..
ممر يختفي أسفل نتوء بارز، في قاعدة الصخرة..
وبسرعة، ولأنه الأمل الوحيد، الذي لاح له، في ذلك العالم الرهيب، انزلق بجسده عبره..
كانت جدرانه أكثر صلابة من الأرضية، مما ساعده على الانزلاق في خفة، فراراً من الكائنات العملاقة، وتلك البللورات الأرجوانية العجيبة..
ومن بعيد، هلَّت عليه رائحة قوية..
رائحة بدت مألوفة، على عكس كل ما يحيط به..
ولأنها أول مرة، يشعر فيها بشيء مألوف، منذ وجد نفسه في ذلك العالم، فقد زاد من سرعة انزلاقه، ليصل إلى مصدر الرائحة ولكن الظلام كان يحيط به بشدة، كلما توغل في ذلك الممر، مما ضاعف من توتره وقلقه، فتوقَّف عن الانزلاق، وانكمش وسط الظلمة يلهث في انفعال، وهو يستعيد تلك اللحظات، التي لا يدري ما الذي حدث خلالها بالضبط..
لقد غيَّر معطيات قاذف الأشعة الأيونية، واستخدم تكنيكاً جديداً، لزجها بالأشعة البروتونية، وبدأ إجراء التجربة بالفعل، عندما أصابته بغتة تلك الصاعقة..
صاعقة قوية عنيفة، ارتجّ لها جسده كله، في قوة لم يعهدها من قبل، وشعر وكأن عقله ينفجر، وكأن ألف ألف مطرقة، هوت على كل خلية من خلاياه، لتطحنه طحناً، وتسحقه سحقاً..
وأظلمت الدنيا كلها أمام عينيه..
وفقد الوعي..
أو أن هذا ما يُتصوَّر حدوثه..
لقد أحاطت به الظلمة بضع لحظات، ثم انقشعت بغتة، ليغمره ضوء مبهر، انتهى بأن وجد نفسه في ذلك العالم..
وكان من الممكن أن ينهار ذهولاً، مع انتقالته المباغتة، التي لم يتوقَّع مثلها قط، لولا أن رأى تلك الكائنات الرهيبة تقترب، فهب يفر منها؛ حفاظاً على حياته..
وها هو ذا، بعد رحلة فرار مضنية، يجد نفسه منزوياً، منكمشاً، خائفاً، مذعوراً، داخل نفق ما..
نفق يقوده إلى شيء، لم يدر ماهيته بعد..
بل، وربما يقوده إلى مصير، أفدح مما يفرّ منه..
ساعدته الظلمة على أن يرهف سمعه، وينصت بكل حواسه إلى ما حوله..
كان كل ما يخشاه أن تتسلَّل تلك الكائنات البللورية إليه، على الرغم من عدم تناسب حجمها، مع جدران الممر الطويل المظلم..
ولقد تناهى إلى مسامعه بالفعل صوت خافت..
صوت أشبه بهدير أمواج، يأتي من بعيد..
من الأعماق..
أعماق ذلك العالم المخيف..
وبكل توتره، حاول عقله أن يتبين ماهية ذلك الصوت..
إنه صوت خزَّنته ذاكرته ذات يوم..
صوت، اعتاد سماعه شديد الخفوت..
وها هو الآن أشبه بالهدير..
توترت كل ذرة من كيانه، وهو يعتصر عقله..
ويعتصره..
ويعتصره..
لابد وأن يجد تفسيراً لكل ما حوله..
لابد..
لم يجد أمامه، بعد فترة عميقة من التفكير، سوى أن يواصل زحفه عبر الممر الطويل؛ ليتقرب أكثر من مصدر الهدير..
ورويداً رويداً، بدأ يتبينه أكثر..
وأكثر..
وأكثر..
وكلما قطع متراً، عبر ذلك الممر المنزلق، كانت ذاكرته تصرخ أكثر، بأن ذلك الصوت مألوف..
ومرة أخرى، توقَّف يلهث، وشعر بآلام عنيفة في كل عضلاته، وبدت له أنفاسه ثقيلة، وكأنما انخفض الأكسجين من حوله، وتشبَّع الجو بثاني أكسيد الكربون..
ولأنه عالم، أدرك أن التوغل في ذلك الممر صار مستحيلاً، وإلا اختنق بعد عدة أمتار..
في ظروف أخرى، كان سيتحتم عليه أن يحمل أسطوانة أكسجين، وأن يستعين بمعدات خاصة..
ومع تثاقل أنفاسه المتصل، أدرك أكثر حتمية أن يصعد إلى السطح، وأن يعود أدراجه عبر الممر..
وعندما همَّ بذلك، قفزت الأجوبة كلها إلى رأسه بغتة، فاتسعت عيناه عن آخرهما، وغمغم:
- يا إلهي!.. هذا مستحيل!.. مستحيل!
فعلى حين غرة، أدرك ماهية ذلك الهدير، وجواب السؤال..
وكان جواباً مذهلاً..
إلى أقصى حد ممكن.
* * *