عبر عدسة مكبرة شديدة القوة، راح أفراد الفريق يفحصون أرضية معمل الدكتور (صفوت) بمنتهى الدقة، حتى أنهم لم يتركوا سنتيمتراً واحداً دون فحص، و(نور) يقول في حزم:
- سنفترض طوال الوقت أن الدكتور (صفوت) سقط عفواً، في مسار أشعة التصغير، التي تضاعفت قوتها لسبب ما، معطية ذلك الوهج الشديد، مما أدى إلى تقلُّص حجمه إلى درجة كبيرة.
غمغم (أكرم)، في شيء من السخط:
- كنا سنجده، حتى لو أصبح في حجم عقلة الإصبع.
هزَّ (نور) رأسه، قائلاً:
- سنغرق في الخيال، ونتصوَّر أنه انكمش إلى ما هو أصغر من هذا؛ لذا فسنفحص الشقوق الرفيعة، بين قطع رخام الأرضية، وأية فجوة نجدها، ولن نهمل أي احتمال، مهما بدا بعيداً.
تمتمت (سلوى):
هذا ما نقوم به بالفعل.
أجابها (نور):
- وسنواصل القيام به، حتى نتيقَّن من أن هذا الاحتمال، الغرق في الخيال، ليس وارداً.
تابع الكل عملهم، بمنتهى البطء والدقة، و(نشوى) تسجِّل النتائج على شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بها، أوَّلاً بأوَّل، ومع فجر اليوم التالي، كانوا قد انتهوا من مهمتهم، فتثاءب (أكرم)، وهو يقول في إرهاق شديد:
- نستطيع الجزم الآن، بأن الرجل لم يختف هنا.
أشار (نور) بسبَّابته، قائلاً في حزم:
- هذا ينطبق على الأرضية وحدها.
تساءل (رمزي):
- ماذا تعني؟!
أجابه (نور) على الفور:
- لو أن الوهج الذي رأيناه، قد أدى إلى تقلُّص حجم الدكتور (صفوت)، إلى حد يفوق المتوقَّع، فسيعني هذا أنه صار في حجم ذرة غبار أو أقل، مما قد يطير جسده معه، بفعل الطاقة الناجمة عن الوهج، ليحط على أي جسم هنا.. ربما المنضدة، أو أحد الأجهزة، أو حتى مدفع الأشعة النيوترونية نفسه.
هتف (أكرم):
- أيعني هذا أن علينا أن نفحصها كلها؟!
أشار إليه (نور)، قائلاً:
- بالضبط.
وعلي الرغم من الإجهاد الشديد، الذي يشعرون به، والشمس التي تشرق، وتلقي خيوطها الذهبية، عبر ستارة النافذة، بدأ أفراد الفريق الجزء الثاني من بحثهم..
وكان عليهم أن يجدوا رجلاً اختفى بلا مقدمات..
وبلا أدنى أثر!!..
* * *
ذلك العالم كان مخيفاً..
مخيفاً إلى أقصى حد..
سماء حمراء بلون الدم..
تألُّق عجيب لكل شيء..
وجبال شاهقة..
مخيفة..
فيروزية..
حية..
وأرض رخوة، على نحو يثير في النفس شعوراً غريباً..
وتلك الكائنات..
آه من تلك الكائنات..
كائنات عملاقة، مخيفة، تتحرَّك بسرعة لم ير مثلها من قبل..
وتلتهم كل شيء..
كل شيء بلا استثناء..
ومن الواضح أنه البشري الوحيد، في ذلك العالم..
الصمت الرهيب، المحيط به من كل جانب، يؤكِّد هذا تماماً.
فعلى الرغم من الاتساع الرهيب، لكل ما يحيط به، لا ينبعث من ذلك العالم الرهيب أدنى صوت..
حتى تلك الكائنات، التي تتحرَّك بسرعة، وتلتهم كل ما أمامها، لا تصدر أدنى صوت..
فقط تهتز الأرض تحت وقع خطاها الثقيلة..
الأرض الرخوة، ذات اللون الأخضر الداكن..
ويا له من مشهد!..
وبكل رعبه، راح الدكتور (صفوت) يعدو..
ويعدو..
ويعدو..
لم يكن هناك من مهرب، أو مفر..
الأمل الوحيد، هو ألا تنتبه إليه تلك الكائنات..
رآها تقترب من بعيد، فبحث عن أي مكان للاحتماء، ولم يجد أمامه سوى صخرة كبيرة، من تلك الصخور الفيروزية المتألِّقة..
وبسرعة، اختفى خلف الصخرة، وراح يراقب تلك الكائنات في هلع وارتياع، وقلبه يخفق في قوة وعنف، وهو يدعو الله عزَّ وجلَّ ألا تلمحه تلك المخلوقات..
ولكن ترى هل تحتاج إلى هذا بالفعل؟!..
إنها كائنات عملاقة، ولكنه لا يرى لها أية ملامح؟!..
ليست لها عيون!..
على الأقل، ليس كما اعتدنا ونعرف..
هناك وسيلة أخرى حتماً، تجذبها نحو فرائسها..
ومن بعيد، راح يراقب..
ويراقب..
ويراقب..
ثم فجأة، شعر بتلك الحركة خلفه..
والتفت بكل ذعر الدنيا..
واتسعت عيناه عن آخرهما..
فمن تلك الأرض الخضراء الداكنة، راحت تبرز أجسام أرجوانية، أشبه بقطع من الأحجار البلورية الضخمة..
وفجأة، بدأت تتحرَّك..
وتتجه نحوه..
مباشرة..
وهنا، انتفض جسده بكل رعب الدنيا، وتراجع مذعوراً، وأدرك أنه قد صار محتجزاً، بين المطرقة والسندان..
فمع انتفاضته المباغتة، وبوسيلة ما، انتبهت الكائنات الهائلة الأولى إليه..
كلها توقفت فجأة، ثم استدارت إليه، واتجهت نحوه، بتلك السرعة الفائقة الرهيبة..
وعندئذ، لم يدر الدكتور (صفوت) أين يذهب..
وبكل ما تموج به أعماقه من انفعالات، صرخ:
- أي عالم هذا؟!..
وانطلق صراخه يتردَّد على نحو عجيب، وسط ذلك العالم الصامت الرهيب..
بلا مجيب..
وبلا أمل..
* * *
زفرة حارة ملتهبة، انطلقت من بين شفتي (أكرم)، وهو ينخفض بجسده ليجلس أرضاً، قائلاً:
- أظننا فعلنا كل ما بوسعنا يا (نور).
كان الجميع مجهدين على نحو واضح، بعد أن مالت الشمس للمغيب، دون أن يتوقفوا عن البحث لحظة واحدة، منذ عصر اليوم السابق..
وفي تهالك، أضافت (سلوى):
- لا يمكن أن يكون الدكتور (صفوت) هنا، بأي حال من الأحوال.
غمغم (رمزي):
- ولا حتى في شقوق الأرضية.
بدا (نور) متوتراً، كعادته كلما استغلقت عليه الأمور، وحار في إيجاد تفسير علمي منطقي لأمر ما، وهو يقول:
- ولكن الرجل لم يتلاش حتماً.. هناك شيء لم ننتبه إليه بالتأكيد.. أنتم تعرفون القاعدة، ما من شيء يمكن أن يختفي، دون أن يترك خلفه أثراً ما.
مسحت (نشوى) جبهتها في إرهاق، وهي تقول:
- أحياناً ما يكون ذلك الأثر من الضخامة، بحيث لا ينتبه إليه أحد.
غمغم (أكرم):
- كيف أيتها النابهة؟!
أجابه (نور) في اهتمام:
- (نشوى) على حق، فعندما يبدأ ذهنك في البحث عن أية آثار دقيقة، قد لا تنتبه إلى أثر كبير، يواجهك طوال الوقت؛ لمجرد أن عقلك قد استبعد مثل وجوده.
اعتدل (رمزي)، قائلاً:
- هذا صحيح.. من الناحية النفسية على الأقل.
هزَّ (أكرم) رأسه في عنف، وهو يقول:
- لن يمكنكم إقناعي بهذا قط.. كيف يمكنني ألا أنتبه إلى وجود فيل، في حجرة أبحث فيها عن نملة؟!
أجابه (رمزي):
- في الواقع أن..
قاطعه (أكرم) في صرامة:
- لا تحاول.
ثم نهض، ومد يده نحو علبة المياه الغازية، التي تتوسَّط القرص العاكس، وهو يستطرد:
- لست بحاجة إلى حوار سفسطائي الآن.. كل ما أنشده بحق، هو قليل من تلك المياه الغازية، حتى ولو لم تكن باردة كما اعتدتها، و...
وهنا، انتفض (نور) في عنف، وهتف بكل قوته:
- احترس.
والتفت إليه الكل بدهشة..
بمنتهى الدهشة.
* * *