على الرغم من محنتة، لم يستطع "صبري" إخفاء دهشته وإعجابه، وهو يقلب أوراق "قدري" الزائفة بين يديه، قبل أن يسأل السفير:
- أأخبركَ بأنه صنعها بنفسه؟!
أومأ السفير برأسه إيجاباً، وهو يقول:
هذا أدهشني أيضاً، فهي متقنة للغاية.
هز "صبري" رأسه، وقال:
ليست متقنة فحسب، إنها تحفة، ولولا أن السوفيت في ظروف الطوارئ، سيراجعون الأرقام مع سجلاتهم، لما أمكن كشفها قط.
تمتم السفير:
هذا صحيح.
ثم جلس خلف مكتبه، وهو يسأل:
ماذا سنفعل به؟!
صمت "صبري" بضع لحظات مفكراً، قبل أن يسأله:
أمازلت تحتفظ به؟!
أومأ السفير برأسه إيجاباً، وقال:
لا يمكننا التخلي عنه، في مثل هذه الظروف... إنه مواطن مصري، وفور إعادته إلى مصر سأعمل على تسليمه للسلطات.
غرق "صبري" في التفكير، وهو يقول في شرود:
أو ربما نمنحه عفواً شاملاً.
هتف السفير مستنكراً:
- عفواً؟!
لوح "صبري" بالأوراق قائلاً:
لا يمكنك أن تخسر موهبة كهذه.
مرة أخرى استنكر السفير:
موهبة؟!... إنه مجرد مزور ومحتال.
أجابه "صبري":
هذا لا يمنع أنه موهوب.
حدق السفير فيه بضع لحظات، ثم لم يلبث أن هز رأسه، متمتماً:
- في بعض الاحيان لا يمكننى فهمك.
غمغم "صبري":
لا تجعل هذا يدهشك.
ثم تراجع في مقعده، وهو مازال يلوح بالأوراق الزائفة، وقد شعر بأن القدر قد ساق إليه "قدري" في تلك اللحظات بالذات، لهدف ما...
هدف مازال غامضاً...
للغاية...
* * *
من المؤكد أنها كانت أعجب مطاردة، شهدتها العاصمة موسكو في تاريخها كله...
ربما لم تكن بعنف مطاردات سابقة أو لاحقة إلا أنها كانت مختلفة... مختلفة للغاية...
كانت مطاردة شرسة، بين ثلاث سيارات أمن قوية...
وشاب يمتطي دراجة...
ولكن كل من أسعده الحظ برؤية تلك المطاردة، يمكن أن يقسم أن ذلك الشاب، بغض النظر عن هويته، لم يكن شاباً عادياً...
لقد بدا أشبه بشيطان صغير....
شيطان لا يقود دراجته بمهارة مدهشة، ويحفظ توازنها على الأرض بقدرة مستحيلة فحسب، وإنما يناور السيارات الثلاث، ويفلت منها بجرأة لا مثيل لها أيضاً...
فمع بدء المطاردة، كان "أدهم" الشاب ينطلق في خط مستقيم، لذا فقد لحقت به السيارات الثلاث في سرعة، وكاد "ديمتري" يصدمه بسيارته، عندما انحرف "أدهم" في سرعة ومهارة، على نحو مباغت، ووثب بدراجته فوق الإفريز، وانطلق بها وسط المارة، الذين أصابهم الذعر، فأفسحوا المجال..
و"ديمتري" يهتف في سيارته في غضب:
- ياللشيطان!...
حاول أن يلحق به إلا أن أعمدة الإنارة كانت تمنعه من هذا فاكتفى بالانطلاق في محاذاته، وهو يهتف بإحدى السيارتين الأخريين، عبر اللاسلكي:
- تقدم واقطع الطريق عليه.
زادت السيارة من سرعتها، لتسبق "أدهم" عند نهاية الطريق، في حين أخرج "ديمتري" مسدسه، وصوبه نحو "أدهم" في إحكام، مغمغماً في بغض:
- فلنترك هويتك لما بعد أيها الصبي...
قالها، وأطلق رصاص مسدسه نحو الهدف...
مباشرة...
* * *
شعر "قدري" الشاب بارتباك شديد، وهو يقف أمام عيني "صبري" الفاحصتين واللتين تفحصتا كل سنتيمتر منه، قبل أن يسأله هذا الأخير في هدوء، حمل نبرة صارمة مخيفة:
من أنت بالضبط؟!
خفض "قدري" عينيه بضع لحظات، قبل أن يجيب في خفوت:
يمكنك أن تقول إنني فنان.
سأله "صبري" فوراً:
في أي مجال؟
تردد "قدري" على نحو ملحوظ، قبل أن يجيب:
منذ طفولتي وجدت في نفسي المقدرة على تقليد كل ما يقع في يدي، ومع نموي، رحت أراعي التفاصيل أكثر حتى بت اليوم قادراً على تقليد أي شيء بأدق التفاصيل.
سأله في اهتمام:
أهذا ما دفعك إلى الفرار من مصر؟!
انتفض "قدري" هاتفاً، فيما يشبه الفزع:
أنا لم أفر من مصر..
سأله في صبر:
لماذا أنت هنا إذن؟!
أجابه "قدري" في سرعة:
لقد أتيت لدراسة فن المنمنمات.. إنه فن التفاصيل الدقيقة للغاية والذي لم تدخل مصر مضماره بعد.
مال "صبري" نحوه، متسائلاً:
أتعني أن أوراقك كلها سليمة، في هذا الشأن.
أجابه في حماس:
بالتأكيد.
لوح "صبري" بالأوراق، وهو يسأله في صرامة:
لماذا تسير بأوراق زائفة إذن؟!
تردد "قدري" طويلاً، في شيء من الخزي هذه المرة قبل أن يجيب وهو يعود لخفض عينيه أرضاً:
المواطنون هنا يحصلون على امتيازات عديدة... أسعار مخفضة، سلع خدمية، وأخرى لا يحصل عليها سواهم... بل هناك بضع خدمات مجانية أيضاً... ولما كان ما يرسله أبواي أقل مما يكفيني للعيش والدراسة كأجنبي آخر...
قاطعه "صبري":
- لا بأس... لقد فهمت.
بدا صوت "قدري" أقرب إلى البكاء، وهو يقول:
كل ما أردته هو دراسة فن المنمنمات.
تطلع إليه "صبري" لحظات في صمت، ثم سأله:
سؤالان أخيران يا "قدري"... لماذا لم تحمل أوراقك السليمة معك؟!
وكيف تقنع السوفيت بأنك واحد منهم؟!
كان يدرك بحكم خبرته أن هذا أمر بالغ الصعوبة، نظرا لانغلاق الشعب الروسي وقوة وسطوة أجهزة أمنه، لذا فقد كان الجواب يهمه بشدة, كرجل مخابرات، مما جعله يرهف سمعه، و"قدري" يجيب:
الأمن يصاب بالهوس أحياناً، ويقوم بتفتيش عشوائي للبعض، في مناطق عشوائية، ولو عثروا على الأوراق المصرية والسوفيتية معي فسيكون هذا دليل إدانة واضحا ولو أنك راجعت كل ما لديك من أوراق فستجد أنني أوضحت فيها أنني رجل أبكم أتلقى علاجاً منتظماً، ولما كنت أجيد الروسية...
مرة أخرى، قاطعه "صبري" مغمغماً:
- مدهش.
رفع "قدري" عينيه إليه في دهشة، فتراجع "صبري" في مقعده، قائلاً:
إذن فالقدر هو الذي ساقك إلينا الآن يا "قدري".
لم يفهم "قدري" ما يعنيه، لذا فهو لم ينبس ببنت شفة...
على الإطلاق...
* * *
رجل المخابرات السوفيتي "ديمتري" يجيد التصويب إلى حد كبير، لذا، فعندما صوب مسدسه نحو "أدهم" من هذه المسافة القريبة، كان واثقاً تماماً من إصابته، ولذا لم يتردد، وأطلق النار...
وهنا تدخل القدر...
ففي نفس اللحظة التي ضغط فيها زناد مسدسه، ضغط قائد سيارته فراملها بغتة، لتفادي الاصطدام بسيارة أمامه...
ومع انخفاض السرعة المفاجئ، طاشت الرصاصة، لتصيب الجدار، خلف رأس "أدهم" مباشرة، مما دفع هذا الأخير إلى الانطلاق في خط متعرج وسط المارة و"ديمتري" يصرخ في سائقه:
أيها الغبي الحقير.
ثم التفت إلى مساعده في المقعد الخلفي وهتف به:
البندقية ذات المنظار... استخدم البندقية.
كان مساعده قناصاً قديماً محترفاً، لذ فلم يكد يسمع الأمر حتى جذب البندقية من جواره، وأسندها إلى كتفه، وصوبها نحو "أدهم" على الرغم من حركته الملتوية...
كان قد بلغ نهاية الإفريز، عندما شاهد سيارة الأمن الثانية تعترض طريقه وخلفها صف طويل من الدراجات، وفي اللحظة نفسها كانت مؤخرة رأسه تملأ عدسة منظار البندقية، والمساعد يغمغم:
وداعاً أيها الصبي...
وكان هذا يعني أنه لم يعد هناك مفر...
أي مفر.
* * *