انعقد حاجبا السفير المصري في "موسكو" وهو يتطلع إلى الشاب الواقف أمامه في حجرة الاستقبال بالسفارة...
كان شاباً بديناً، مكتظ الوجه، في منتصف العشرينات من عمره، وله ملامح طفولية صغيرة، لا تتناسب مع حجمه، الذي تضاعف مع معطف الفراء الضخم الذي يحيط نفسه به..
والذي جعل السفير يقول في حذر:
الجو دافئ في الداخل.
أدرك الشاب ما يرمي إليه، فأسرع يخلع معطفه، ووضعه بعناية على مقعد قريب، ثم وقف أمام السفير كتلميذ مذنب، ينتظر العقاب، فسأله السفير بنفس الحذر:
لماذا طلبت مقابلتي، على هذا النحو العاجل؟!
ارتبك الشاب، وهو يجيب:
أنا مصري في ورطة، وأنت سفيرنا هنا، و...
قاطعه السفير بنفاد صبر:
ما مشكلتك بالضبط؟!
تردد الشاب لحظة، ثم أجاب:
مشكلة أمنية.
انعقد حاجبا السفير وهو يسأله:
هل ارتكبت جناية هنا؟!
أجابة الشاب في سرعة، وبلهجة أقرب إلى الارتياع:
مطلقاً.
سألة السفير، وقد تضاعف حذره:
ماذا إذن؟!
مرة أخرى، تردد الشاب بضع لحظات، وقال:
لسبب ما، أعلن السوفيت حالة الطوارئ القصوى، في قلب "موسكو".
تمتم السفير في ضيق:
أعلم هذا.
واصل الشاب، في شيء من الانفعال:
ونظراً لحالة الطوارئ، يراجعون أوراق كل الأجانب، وحتى المواطنين.
حاول السفير استنتاج الباقي وهو يتساءل:
- وأنت لا تحمل أوراقاً؟!
تنهد الشاب، وأجاب في خفوت:
بل أملك كل الأوراق المطلوبة.
شعر السفير بدهشة غاضبة، وهو يقول في حدة:
- ما المشكلة إذن؟!
طال تردد الشاب هذه المرة، قبل أن يجيب، في خفوت أكثر:
كلها زائفة.
خيل للسفير أنه لم يسمع الجواب جيداً، وهو يميل برأسه نحو الشاب قائلاً:
- ماذا؟!
تنحنح الشاب، والتقط نفساً عميقاً، ربما للسيطرة على أعصابه، قبل أن يكرر:
كل ما أحمله من أوراق زائف.
حدق فيه السفير بمنتهى الدهشة، فارتبك الشاب أكثر، وأضاف، وهو يخفض عينيه في خزي:
- أنا صنعتها.
تضاعفت دهشة السفير، ولم يستطع النطق بحرف واحد، وهو يمد يده إلى الشاب الذي فهم ما يعنيه، فالتقط أوراقه، وناوله إياها...
وفي دهشة بلا حدود، راجع السفير الأوراق...
كل الأوراق..
كانت تبدو له سليمة تماماً، دون ذرة واحدة من الشك...
تصريح إقامة...
رخصة قيادة...
بطاقة جامعية..
وحتى بطاقة للحصول على السلع المدعومة...
وكلها كانت تحمل اسماً روسياً، يوحي بأنه مواطن سوفيتي أصلي...
وبكل توتره، رفع السفير سماعة الهاتف، وقال لسكرتير السفارة، في لهجة حملت كل انفعاله:
- اطلب من "صبري" الحضور... هذا يحتاج إلى خبير أمني.
وأنهى الاتصال، وهو يرفع عينيه إلى الشاب، الذي وقف مطأطأ الرأس في خزي، وسأله:
ما اسمك يا بني.. اسمك الحقيقي؟!
أجابه بلهجة أقرب إلى البكاء:
-"قدري"... اسمي"قدري".
وخط القدر سطراً جديداً في الأسطورة...
أسطورة البداية
* * *
لا أحد يمكن أن يدعي رؤية "موسكو" الحقيقية إلا لو رآها في قلب الشتاء... فعلى الرغم من التصميم الذي يعتمد على الأقبية والأسطح المائلة والذي تعمده قدامى مصمموها حتى لا تتراكم الثلوج فوق الأسطح، إلا انها تتجمع كلها عند آخر النوافذ، وعلى الأرضيات والطرق، فتمنح العاصمة الجليدية مظهراً يليق بتاريخها العتيد...
العاصمة التي انكسرت على أبوابها جيوش "نابليون بونابرت"، و"أدولف هتلر" واندحرت، وعادت إلى بلادها، تجر أذيال الخيبة، مع مرارة الهزيمة والعار...
في تلك العاصمة، هوى جسد "أدهم" الشاب، من الطابق الرابع...
كان السطح، الذي وثب ليبلغه، أبعد مما ينبغي، حتى إنه فوجئ بجسده يعجز عن بلوغه...
فهوى...
ومع سقوطه، بدا له أنه تسرع، وبالغ كثيراً، في تقدير قدراته ومهاراته، في مواجهة كهذه...
كان ينبغي أن يتلقى مزيداً من التدريب...
ويكتسب المزيد والمزيد من الثقة...
ولكن أفضل ما في "أدهم" منذ طفولته هو أنه لا يضيع لحظة واحدة في الندم على ما فات...
فقط يدرس لحظته...
ومستقبله...
كل ما يستفيد به من الماضي، هو أن يكتسب خبرة، أو يتفادى تكرار خطأ...
وفي تلك اللحظة، وبينما يهوي جسده، كان يدرس الموقف كله، في سرعة بالغة، وبعقل ملتهب..
وعندما رصدت عيناه قائماً بارزاً، من جدار المنزل المقابل، دفع جسمه نحوه، كما لو أنه لم يستطع التحكم فيه، مع سقوطه السريع...
والمدهش أنه فعلها...
بوسيلة ما، ربما هي إرادة فولاذية، استجاب له جسده، واندفع سنتيمترات قليلة إلى الأمام، وامتدت يده نحو القائم، و...
وتشبث به...
ذلك التشبث أوقف سقوطه دفعة واحدة، فشعر بألم في عضلاته، واندفع جسده كله نحو جدار المنزل، فرفع قدميه، يستقبل بهما الجدران...
واستقر هناك...
لم يستقر سوى لحظة واحدة، سمع بعدها صوتا يصرخ بالروسية:
- هاهو ذا.
رفع عينيه بسرعة، إلى مصدر الصرخة، ورأى رجلاً مذعوراً، يطل عليه من شرفة الطابق السفلي، ثم يسرع ليصرخ في رجال الأمن، الذين يعدون في الشارع...
ودون أن يضيع لحظة واحدة، أفلت "أدهم" يده، وهو يندفع نحو تلك الشرفة، فهبط داخلها، ورأى الرجل يمتقع، ويتراجع صارخاً:
- جاسوس... جاسوس.
كان رجال الأمن يعدون نحو الشارع، استجابة لصرخة الرجل فتعلق "أدهم" بقائم الشرفة، ووثب منها إلى الشرفة السفلية، ثم منها إلى شرفة الطابق الأول، في نفس اللحظة التي وصل فيها رجال الشرطة، وبدأوا يطلقون النار نحوه...
ومع إطلاق النار، وحتى لا يحاصر داخل المبنى، وثب "أدهم" الشاب من شرفة الطابق الأول إلى الأرضي، وانطلق يعدو مرة أخرى في عكس اتجاه رجال الشرطة الذين واصلوا إطلاق النار خلفه، محاولين إصابته، وقد بلغ غضبهم مبلغه...
كان يعدو بكل قوته، محاولاً بلوغ الطرف الآخر للشارع، عندما فوجئ بعدد آخر من رجال الشرطة يعترضون طريقه، ويشهرون مسدساتهم بدورهم...
ومرة أخرى، أعاد عقل "أدهم" الشاب دراسة الموقف بمنتهى السرعة، دارت عيناه حوله محاولة رصد ما يمكن الاستعانه به...
ولكن الطريق كان خالياً، والأبواب كلها موصدة، ولا يوجد سوى شارع جانبي واحد، يبعد عنه عشرين متراً على الأقل، وثلاث دراجات متراصة أمام أحد مداخل المنازل...
وبلا تردد وثب "أدهم" فوق إحدى الدراجات الثلاث، وانطلق بها، وهو يستعيد أيام لهوه مع شقيقه "أحمد" في طفولتهما...
ومع المبادرة المفاجئة، توقف رجال الشرطة عن إطلاق النار لحظة، وخاصة الذين كان ينطلق نحوهم في نهاية الشارع واستغل هو عامل المفاجأة على نحو مدهش، ليبلغ ذلك الشارع الجانبي، ثم ينجرف فيه بدراجته، بأقصى سرعة تسمح بها..
وفور انطلاقه، سحب أحد رجال الشرطة جهاز اتصاله اللاسلكي، وهتف:
- إنه الرفيق "ديمتري"... إنه يتجه نحوك.
التقط "ديمتري" الاتصال، وهو يجلس داخل إحدى سيارات الأمن فتحفزت كل حواسه، وتأهب لاستقبال "أدهم" عند مخرج الشارع... ولكنه لم يكن يتوقع قط رؤيته ممتطياً دراجة، ويندفع بها في مهارة مدهشة من الشارع، ثم ينحرف إلى الطريق الرئيسي، ثم ينحرف مبتعداً...
وبحركة تلقائية، أطلق "ديمتري" رصاصتين خلفه، قبل أن يصرخ:
- الحقوا به..
ومع صرخته انطلقت سيارته، مع سيارتين أخريين، يطاردون "أدهم"..
وكانت أعجب مطاردة شهدتها "موسكو" في تاريخها كله...
مطاردة بين ثلاث سيارات أمن قوية...
ودراجة..
* * *