"أنا مضطر لإبلاغ القاهرة"...
نطق السفير عبارته في صرامة حاسمة، فتنهد "صبري" في توتر، وقال:
ربما يؤدي هذا إلى إفساد الأمر كله.
قال السفير في حدة:
- إنه فاسد بالفعل.. "موسكو" كلها أعلنت حالة الطوارئ، ونصف رجال أمنها يطاردون ابنك، في حين ينصب له النصف الآخر الحواجز والمتاريس، فأية نهاية يمكن أن تتوقعها.
اجابه "صبري" في عصبية:
لا أحد يمكن أن يتنبأ بالنهاية.
قال السفير بصرامته:
ربما كان هذا صحيحاً، ولكنني مازلت مضطراً لإبلاغ القاهرة حتى تتخذ ما يلزم في هذا الأمر.
التفت إليه "صبري" قائلاً في حزم:
- وما الذي ستخبر به القاهرة بالضبط؟!
أجابه السفير:
بما يفعله ابنك هنا.
صمت "صبري" لحظة ثم قال بمنتهى الحزم:
من الناحية القانونية والرسمية، لم يفعل ابني "أدهم" شيئاً منذ وطأت قدماه موسكو، والسوفيت أنفسهم لا يمكنهم اتهامه بهذا أو حتى الإشارة إلينا، فلماذا نجازف بإرسال برقية، ربما رصدوا شفرتها منذ زمن، فيكشفون المستور، ويوقنون ممن يطاردون، وتتحول المشكلة إلى كارثة؟!
فغر السفير فاه، أمام ذلك المنطق الأمني، وغمغم؟!
ولكن واجبي يحتم عليّ أن...
قاطعه "صبري" بنفس الحزم:
- لا أحد يمكنه منعك من أداء واجبك، ولكن علينا دوماً أن نعمل عقولنا في كل موقف عسير نواجهه، ومن هذا المنطلق سأطرح اقتراحاً واضحاً:
غمغم السفير:
وما هو؟!
أجابه، وقد أدرك أنه نجح في ربح نصف الموقف على الأقل:
سننتظر حتى الغروب، ونرى ما يمكن أن تسفر عنه الأحداث، فإما أن يمكننا استعادة "أدهم" في أمان، أو...
لم يكمل، فغمغم السفير:
- أو نبلغ القاهرة.
ضغط "صبري" كل أعصابه، وهو يجيب:
- بالضبط..
نطقها دون أن يدري ماذا يمكن أن يحدث، حتى مغيب الشمس...لم يكن يدري على الإطلاق!
* * *
عندما صرخ رجل الأمن بأنه يرى "أدهم" لم يكن هذا الأخير يقف داخل الشارع الضيق المسدود بالفعل...
لقد كان هناك..
في أعلى...
كان يتسلق مواسير الصرف بسرعة مدهشة، صاعداً إلى السطح... ولقد أطلقوا عليه النار...
ثلاث رصاصات سريعة، صوٌبوها نحوه، بما بدا لهم منتهى الدقة... وكلها أخطأته...
سرعة تسلقه والماسورة الضخمة التي يحتمي بها، ووثباته العلوية المتقطعة، كلها منعتهم من التصويب عليه بدقة...
وبمنتهى الغضب رآه "ديمتري" يثب إلى سطح المبنى، ويختفي هناك فصرخ في ثورة:
إنه مجرد صبي..
ثم انتزع جهاز اللاسلكي وصاح عبره:
- هليوكوبتر... أريد هليوكوبتر فوراً، لمطاردة سطح..
أنهى الاتصال، والتفت إلى رجاله، قائلاً في شراسة:
حاصروا المنطقة... لو فر منكم هذه المرة فسأرسلكم جميعاً إلى سيبريا... هل تفهمون؟!
ذكر ذلك المعتقل الرهيب في سيبريا أطلق رجفة عنيفة في أجسادهم فانطلقوا يحاصرون المنطقة، دفاعاً عن حريتهم وأمنهم....
أما "أدهم" الشاب فقد راح يعدو على الأسطح المائلة، في سرعة فهد، وخفة قط، ويثب من سطح إلى آخر، مسترجعاً في كل لحظة خريطة موسكو، ومنتقياً هدفه فيها بدقة...
ثم فجأة ظهرت تلك الهليوكوبتر...
هليوكوبتر حربية سوفيتية، برزت فجأة، وحلت فوقه، وقائدها يهتف عبر اللاسلكي:
تم رصد الهدف أيها الرفيق "ديمتري"... ننتظر الأوامر بإطلاق النار عليه.
هتف به "ديمتري" في حدة:
- تطلق النار على صبي، يقفز فوق الأسطح؟!... وماذا لو أصبت سكان البنايات؟!... ألا تدرك أنك تحلق فوق منازل كبار أعضاء الحزب أيها الغبي؟!
ارتبك الطيار، وتساءل:
- ماذا ينبغي أن أفعل إذن أيها الرفيق؟!
أجابه "ديمتري" في سرعة:
هذا يتوقف على اتجاه حركته.
راقب الطيار، انطلاقة "أدهم" بضع لحظات، ولم يستطع إخفاء إعجابه بسرعته وخفته، وهو يجيب:
ينطلق كالفهد نحو حي السفارات.
انعقد حاجبا "ديمتري" وهو يقول في غضب:
اللعنة!.... إنه يحاول الاحتماء بسفارته.
مال مساعده نحوه، وقال في انفعال:
هذا يعني أننا لو رصدناه يمكننا تحديد هويته.
ازداد انعقاد حاجبي "ديمتري" وهو يدير الأمر في رأسه، قبل أن يقول في صرامة:
- فليكن... ولكننا سنحاصر السفارة الأمريكية، لمنعه من دخولها.
وقبل حتى أن يستوعب مساعده الأمر كان "ديمتري" يلتقط جهاز اللاسلكي ويقول للطيار في حزم:
ارتفع يا رجل... اكتفِ بمراقبته، ورصد اتجاهه واترك الباقي لنا.
اندهش الطيار للأمر، إلا أنه لم يملك سوى التنفيذ، فارتفع بالهليوكوبتر وراح يرصد "أدهم " من أعلى....
وعلى الرغم من أنه لا يستطيع التوقف لرؤية ما حدث، أدرك "أدهم" من صوت الهليوكوبتر أنها قد ارتفعت ولقد بدا له هذا مثيراً للانتباه بحق...
فمطاردة بين شاب وهليوكوبتر، ليست لها سوى نهاية واحدة حتمية.....
انتصار الهليوكوبتر...
فلماذا ابتعدت إذن؟!
لماذا؟!
لماذا؟!
كان يدير الأمر جيداً في رأسه، محاولاً تحليله وفهم أبعاده الحقيقية، عندما لاح له حي السفارات بالفعل...
وهناك وثبت الفكرة إلى ذهنه فجأة....
وبلا مقدمات استوعب الأمر كله...
وأدرك هدف السوفيت...
وفي نفس اللحظة، التي أدرك فيها هذا، كان يثب من سطح إلى آخر...
ولكن وثبته لم تكتمل هذه المرة آو آن المسافة كانت أكبر مما ينبغي...
لذا فقد هوى جسده بين البنايتين...
بمنتهى العنف..
* * *
تطلع السفير عبر النافذة الكبيرة في حجرة مكتبه، وراقب حركة الشمس لحظات، قبل أن يلقي نظرة على ساعته مغمغماً:
- ساعة واحدة قبل مغيب الشمس.
أومأ "صبري" برأسه دون أن يحيب، فصمت السفير بضع لحظات أخرى وقال:
سنضطر لإبلاغ القاهرة.
تمتم "صبري"
لم تغرب الشمس بعد.
تنهد السفير وقال:
أمامنا ساعة واحدة:
صمت "صبري" بضع لحظات ثم سأل:
ماذا عن آخر التقارير؟!
زفر السفير، وغمغم في توتر:
مازالوا يطاردونه.
غمغم "صبري":
ولكنهم لم يظفروا به بعد؟!
هز السفير رأسه نفياً، وهم بقول شيء ما، لولا أن دخل سكرتير السفارة في هذه اللحظة، وهو يقول في توتر ملحوظ:
سيادة السفير... لدينا مشكلة.
وهوى قلب الرجلين....
بعنف.
* * *