عندما دخل السفير المصري حجرة "صبري" هذه المرة، كان صامتاً، ممتقعاً، مبهوراً، على نحو جعل هذا الأخير يغمغم في قلق:
- هل من جديد؟!
تطلَّع إليه السفير بضع لحظات في صمت، قبل أن يقول، بصوت خافت مبحوح مرتبك:
- ابنك يا "صبري".
ازدرد "صبري" لعابه الجاف، وهو يتمتم:
- ماذا عنه؟!
أطلق السفير زفرة متوترة، وهو يجيب:
- لقد فرَّ من مقر الـ"كي. جي. بي".
كانت مفاجأة مدهشة، بالنسبة لـ"صبري"، الذي استدار إليه في حركة حادة، وتألَّقت عيناه على نحو عجيب، وهو يغمغم:
- فرَّ؟!
أجابه السفير في توتر مبهور:
- إنها أوَّل مرة يحدث فيها هذا، منذ قاموا بإنشاء الكريملين"*"، وهذا يثير ضجة رهيبة في الحكومة.
كرَّر "صبري"، وقد حمل صوته رنة سعادة هذه المرة:
- فرَّ؟!.. مدهش!
تابع السفير في عصبية:
- ولكنهم يطاردونه في قلب "موسكو".
كان السفير يتوقَّع ألف سؤال وسؤال من "صبري"، إلا ذلك الذي ألقاه بكل اهتمامه:
- هل عرفوا هويته؟!
حدَّق فيه السفير ذاهلاً، فاستدار إليه "صبري"، قائلاً في توتر:
- أخبرني بالله عليك.
ظلَّ السفير محدِّقاً فيه، وهو يهز رأسه في بطء، مجيباً:
- كلا.. إنهم يظنونه أمريكياً.
أغلق "صبري" عينيه، وتمتم في ارتياح:
- حمداً لله.
هتف به السفير، في غضب مستنكر:
- أهذا كل ما يشغلك؟!.. أخبرك أن ابنك مطلوب، في قلب "موسكو"، وقوات أمنها تطارده، فلا يقلقك إلا كشفه هويته؟!
التقط "صبري" نفساً عميقاً، وقال:
- ابني "أدهم" شاب ذكي، شجاع، وعندما وقع في قبضة رجال الـ"كي. جي. بي"، لم يحاول إعلان هويته، حتى لا يورِّط السفارة المصرية في مشكلة أمنية دبلوماسية.
هتف السفير:
- ولكنهم يطاردونه بالفعل.
ضمّ "صبري" شفتيه، وهو يقول في حزم، حاول به مواراة ذلك القلق العارم في أعماقه:
- إنه اختباره الميداني.
قال السفير في حدة:
- خطأ يا "صبري".. خطأ.. ربما أتيت بابنك إلى هنا، في تدريب ميداني مفترض، ولكن الأمر تجاوز هذا، ودخل في دائرة بالغة الخطورة.
زفر "صبري"، قائلاً:
- مازال تدريباً ميدانياً.. ربما بلغ مرحلة خطيرة، ولكن هذا ما يمكن أن يواجهه عميل ميداني عادي، في ساحة النزال، وكل عملية قابلة للتحوُّل إلى حالة خطيرة، دون سابق إنذار.
هتف السفير:
- إننا نتحدَّث عن ابنك.
أجابه في حزم:
- إننا نتحدَّث عن عميل تحت الاختبار.. تصادف أنه ابني.
هتف السفير:
- هذه المطاردة قد تقتله.
أشار بسبَّابته، قائلاً:
- والحكمة القديمة تقول: الذي لا يقتلك يقويك.
بُهِت السفير للجواب، وتطلَّع إليه، مغمغماً:
- ماذا تعني بالضبط؟!
شدَّ "صبري" قامته، واستنفر ما تبقى من إرادته، وهو يقول:
- ما أعنيه واضح تماماً يا سيادة السفير.. ربما لم أقصد ما حدث بالفعل، ولكنه جاء في صالح "أدهم" تماماً.. فبتدبير قدري، تحوَّل تدريبه الميداني الأوَّل، إلى مواجهة ميدانية عنيفة، تكفي لإخراج كل مهاراته وملكاته، فإما أن ينجو منها، ويطمئن قلبي إلى أنه ذلك العميل، الذي حلمت به طويلاً، أو..
لم يستطع إتمام العبارة، فأكملها السفير في حزم غاضب:
- أو تخسر مشروعك كله..
ولم ينبس "صبري" ببنت شفة..
على الإطلاق..
* * *
لم يكن هناك مفر من الاصطدام..
الحواجز والمتاريس كانت تعترض الطريق، وتغلق جانبيه، والسيارات الثلاث القوية خلف سيارة "أدهم" المتهالكة..
والتوقُّف كان يعني الوقوع مرة ثانية، في قبضة المخابرات السوفيتية..
وفي هذه المرة، لن يرحمه أحد..
أبداً..
لذا، فقد بدا أن الخيار الوحيد هو مواصلة الاندفاع، وهذا ما استقر عليه ذهن "أدهم" الشاب، وهو يضغط دوَّاسة الفرامل، ويتجه نحو جزء بارز من الرصيف، و...
وفي مشهد خرافي، لم تشهده "موسكو" من قبل، وثبت الجيب المتهالكة، وحلَّقت فوق بعض المتاريس لحظة، ثم هبطت في عنف، فوق سيارات الشرطة والأمن، على الجانب الآخر منها..
كان مشهداً عنيفاً، ومبادرة غير متوقَّعة، مما أدى إلى حالة اضطراب قوية، دفعت بعض رجال الشرطة والأمن إلى إطلاق النار نحو الجيب، التي انقلبت، وتدحرجت مرتين، ثم استقرَّت، وسط فوضى لا حدود لها..
وفي قوة، ضغط سائق سيارة "ديمتري" فراملها، ولم تكد تتوقَّف، حتى وثب منها هذا الأخير، وهو يلوِّح بمسدسه، هاتفاً:
- حاصروا المكان.. لا تسمحوا لأحد بالفرار.
تبعه عدد من رجال الشرطة والأمن، وانقضوا كلهم على الجيب المحطمة، يفحصونها في لهفة شرسة، قبل أن يهتف "ديمتري" في حنق:
- أين هو؟!
فعلى الرغم من عنف الحادث، والمشهد البشع الذي خَلَّفَه، كانت الجيب المحطمة خالية تماماً، إلا من بقعة دماء حديثة، ولم يكن هناك أثر لـ"أدهم"..
لم يكن هناك أدنى أثر..
وفي ثورة عارمة، صرخ "ديمتري"، وهو يتلفَّت حوله:
- إنه لم يبتعد كثيراً.. ابحثوا عنه.. أسرعوا.
في نفس اللحظة، التي نطق فيها عبارته، كان "أدهم" يعدو مبتعداً، في شوارع "موسكو" الفرعية والجانبية..
ففي دقة مدهشة، تدرَّب عليها كثيراً، انتقى اللحظة المناسبة، ليثب من الجيب، قبيل لحظة واحدة، من سقوطها على سيارات الأمن..
وبينما كانت تتدحرج، وتتخبَّط، وتتكسَّر، كان هو ينزلق محتمياً بها، ويعدو مبتعداً..
كان يعدو بكل قوته، وكأنما فقد آدميته، وتحوَّل فقط إلى آلة للعدو والجرى، وعقله يراجع تلك الخريطة، التي أصرَّ والده على حفظها عن ظهر قلب، قبيل سفرهما..
الآن أدرك أهمية كل ما يلقنه إياه والده، الذي خاض عمليات عديدة، وتعلَّم وخبر الكثير..
والكثير جداً..
وقبل أن يستعيد بعض عبارات والده، انطلقت صفارات الإنذار من حوله، وأدرك أن السوفيت قد قرَّروا إطلاق كل قواتهم خلفه، مما يخفض احتمالات نجاته إلى الحد الأدنى..
ووفقاً للخريطة، كانت تلك الشوارع الفرعية تقوده إلى شارع الثورة، الذي سيكتظ برجال الأمن حتماً..
كيف يمكن أن يخرج من هذا الموقف إذن؟!..
كيف؟!..
كيف؟!..
تناهي إلى مسامعه صوت سارينة سيارة أمن تقترب، فانحرف في أوَّل شارع جانبي، محاولاً تذكُّر إلى أين يقود، و...
وفجأة، وبعد أن أصبح داخل الشارع بالفعل، انتبه إلى طبيعته..
لم يكن شارعاً بالمعنى المعروف، ولكن مجرَّد ممر ضيق بين بنايتين، لا يحوي أية نهاية، أو أبواب أو نوافذ جانبية..
فقط مجموعات من مواسير الصرف، التي تنتهي ببركة ماء آسن..
باختصار، لم يكن هناك مخرج واحد..
ومن بعيد، راح صوت سيارة الأمن يقترب..
ويقترب..
ويقترب..
وفي إحدى السيارات، كان "ديمتري" يصرخ، عبر جهاز اتصال لاسلكي:
- أريد ذلك الصبي بأى ثمن.. حياً أو ميتاً..
كانت سيارات الشرطة والأمن تحاصر شارعي "لينين" و"الثورة"، وكلها تلقَّت أمر "ديمتري" في وقت واحد، فاندفع أكثر من عشرة رجال مسلحين، ينتشرون في المنطقة، ويفتشون المارة، في غلظة وشراسة..
ولم تمضِ دقيقة واحدة، حتى بلغوا ذلك الشارع الجانبي المسدود..
وفي تلك اللحظة، هتف بهم مواطن سوفيتي:
- لقد رأيت ذلك الشاب يدخل هناك، ولم يخرج بعد.
إثر هتافه، اندفع خمسة منهم نحو الممر الجانبي، وهتف أحدهم:
- ها هو ذا هناك.
وقبل حتى أن ينتهي هتافه، كان الخمسة يطلقون نيران مدافعهم الآلية نحو الهدف..
مباشرة.