"عندما نصل إلى "موسكو"، ستبدأ رحلتك التدريبية الميدانية يا "أدهم".."..
استعاد ذهن "أدهم" الشاب تلك العبارة، التي ردَّدها والده على مسامعه في الطائرة، وهو يعدو على الجليد السوفيتي، وخلفه ثلاثة رجال مسلحين، وسيارة قوية..
"ستكون وحيداً يا "أدهم"، وعليك أن تعتمد على نفسك، وألا تتورَّط، أو تورِّط السفارة، في أية أمور.."..
أطلق "ديمتري" رصاصة نحوه، تجاوزته بالكاد، وارتطمت بجزء من الجدار، الذي يعدو إلى جواره، فانحنى بحركة آلية، ثم انحرف في أوَّل شارع جانبي وجده، وهو يعتصر ذهنه، على الرغم من الموقف العسير؛ لتذكُّر كل تفاصيل الخريطة الممكنة..
المفترض أن هذا الشارع يقوده إلى ساحة شعبية صغيرة، في نهايتها زقاق ضيق، يقود إلى...
انطلقت رصاصة أخرى خلفه، من مسدس "ديمتري"، وضربت الأرض، خلف قدمه مباشرة، فوثب إلى الأمام، ووجد نفسه في تلك الساحة الشعبية، وزادت السيارة من سرعتها خلفه، و..
ولم يجد ذلك الزقاق الضيق أمامه..
كانت هناك كومة ضخمة من الصناديق الخشبية، تسد مدخله تماماً، وعدد من السيارات المتهالكة أمامها، بحيث لا يوجد مكان واحد، يمكن أن يختبئ فيه "أدهم"..
ومن سيارته، هتف "ديمتري" في ظفر:
- وقع في قبضتنا.
مع عبارته، زاد السائق من سرعة السيارة، وظهر رجال الأمن الثلاثة، وهم يلهثون في شدة، عند مدخل الساحة الشعبية، وأصبح الحصار كاملاً..
بلا مفر..
وعلى الرغم من لهاثهم العنيف، شهر الرجال الثلاثة مسدساتهم، وأطلَّت من عيونهم نظرة وحشية قاسية، واندفعت السيارة، في حين توقَّف "أدهم" تماماً، واستدار يواجه ذلك الهجوم الرهيب..
ثم فجأة، اتخذ عقله قراراً جنونياً..
ووضعه موضع التنفيذ..
وقبل أن ينتبه أحدهم إلى ما ينتويه، اندفع "أدهم" نحو سيارة "ديمتري"، الذي أدهشه هذا، فهتف مستنكراً:
- ماذا يفعل؟!
لم تكن عبارته قد اكتملت بعد، عندما وثب "أدهم" على مقدِّمة السيارة، التي لم تتوقَّف لحظة واحدة، ثم قفز إلى أعلى، ودار بجسده كله في الهواء، ليهبط خلفها مباشرة..
وأمام رجال الأمن الثلاثة..
ومرة أخرى، شهق الرجال الثلاثة بمنتهى الدهشة، وصرخ "ديمتري" في سائق سيارته:
- استدر.. أسرع.
ضغط السائق فرامل السيارة في قوة، استجابة لأوامره، إلا أن هذا الأمر المفاجئ أدى إلى انزلاق الإطارات، فوق الجليد المنتشر في المكان، فاندفعت السيارة بجانبها، نحو كومة الصناديق الخشبية، وارتطمت بها في عنف، فتساقط بعضها فوقها، وسقطت منه عدة زجاجات فودكا، انتشرت فوق الجليد..
وفي اللحظات نفسها، التي حدث فيها هذا، كان الرجال الثلاثة يشهرون مسدساتهم، في وجه "أدهم"، الذي تحرَّك بسرعة مدهشة، لا تتناسب مع عمره، وركل المسدس من يد أحدهم..
ثم وثب يلتقطه، وهبط ينزلق أرضاً، متجاوزاً الرجال الثلاثة، الذين صرخ أحدهم:
- ما هذا الشيطان؟!
كانت سيارة "ديمتري" تستدير، لتنقض على "أدهم" مرة أخرى، والرجلان الآخران يصوبان مسدسيهما إليه، فمال بالمسدس، وهو يواصل انزلاقه على الجليد، وأطلق منه رصاصة..
رصاصة واحدة، انطلقت في المكان المناسب، فأحدثت شرارة صغيرة، التقطتها الفودكا المنسكبة، فاشتعلت النيران في الساحة كلها دفعة واحدة، وبسرعة مخيفة..
ولم ينتظر "أدهم" ليرى نتائج هذا، وإنما اندفع خارج تلك الساحة الشعبية، وهو يلقي بالمسدس بعيداً..
وبحركة واحدة، وصوت واحد، ارتفعت عشرة مدافع آلية في وجهه، وبدت خلفها وجوه عسكرية سوفيتية صارمة..
ثم ظهر "ديمتري" والرجال الثلاثة من خلفه، وبدوا أشبه بسيلويت صامت، مع النيران المشتعلة خلفهم..
وأدرك "أدهم" أنه قد سقط..
في قبضة السوفيت..
الرهيبة..
* * *
انعقد حاجبا "صبري" في شدة وتوتر، وهو يعقد كفيه خلف ظهره، ويواجه نافذة مكتب السفير الكبيرة، فسأله هذا الأخير في حدة:
- هل ستجلس هنا صامتاً؟!
غمغم "صبري":
- إنه تدريب ميداني؟!
صاح السفير محنقاً:
- ولقد فشل، وابنك الآن في قبضة المخابرات السوفيتية، وكلانا يعلم أنهم لا يرحمون الجواسيس.
غمغم "صبري"، وهو يحاول كتمان مرارته في أعماقه:
- إنه ليس جاسوساً.
صاح السفير:
- ومن سيثبت لهم هذا؟!.. الشهود أكَّدوا أنه فر منهم، بأسلوب أقرب إلى المحترفين، ومن المستحيل أن يصدقوا أنه مجرَّد صبي عادي.
عضَّ "صبري" شفته السفلى، قبل أن يقول:
- عليه أن يواجه هذا.
كاد السفير يصرخ:
- هل جننت يا رجل؟!.. إننا لا نتحدَّث عن عميل ميداني.. إنه ابنك.
كتم "صبري" دموع ألمه، وهو يقول في حزم:
- هنا، هو عميل ميداني.. وعليه أن يواجه الموقف.
لم يصدِّق السفير أذنيه، وهو يحدِّق فيه ذاهلاً، ولكن "صبري" لم يلتفت إليه بنظرة واحدة..
ربما ليخفي تلك الدموع، التي سالت من عينيه في صمت..
دموع خوفه على ابنه..
على "أدهم"..
* * *
"أنت أمريكي.. أليس كذلك؟!.."..
نطق "ديمتري" السؤال في صرامة، باللغة الإنجليزية، فرفع "أدهم" عينيه إليه في هدوء، وأجابه بإنجليزية سليمة:
- ربما.
رمقه "ديمتري" بنظرة قاسية صارمة، وعقد كفيه خلف ظهره، وتحرَّك قليلاً في المكان، ثم قال في حدة:
- لكنتك ليست أمريكية.. ربما كنت بريطانياً، أو..
استوقفته ابتسامة "أدهم" الساخرة، فصرخ، وهو يهوي على وجهه بصفعة غاضبة:
- لا تسخر مني.
صد "أدهم" الصفعة بساعده الأيسر، وشعر "ديمتري" بقوة الساعد، فتراجع بحركة حادة، وقال في غضب:
- آه.. أنت ترغب في العنف إذن.
هزَّ "أدهم" كتفيه، في لا مبالاة مستفزة، فاحتقن وجه "ديمتري"، وقال في شراسة:
- لو أنك تتحدى "ديمتري"، فأنت غبي.
ثم استدار إلى أحد رجاله، قائلاً بنفس الشراسة:
- اطلب "أليكس".
اتسعت عينا الرجل، وكأنما أفزعه ذكر الاسم، واندفع خارج المكان وهو يرتجف، فاعتدل "ديمتري" يواجه "أدهم"، قائلاً:
- لو أردنا استنطاق تمثال من الحجر، فالرفيق "أليكس" هو خير من يفعل هذا.
غمغم "أدهم" في لا مبالاة:
- عظيم.
احتقن وجه "ديمتري" أكثر، ومال نحوه، وهو يلوِّح بمسدسه في وجهه، قائلاً:
- عندما تبدأ في التوسُّل، سأجبرك على لعق حذائي أيها المتعجرف، و...
قبل أن يتم عبارته، تحرَّكت يد "أدهم" في سرعة مدهشة، فالتقط ماسورة مسدس "ديمتري"، وأمالها بحركة حادة، آلمت أصابع هذا الأخير، فأفلت مسدسه بحركة غريزية، في نفس اللحظة التي تلقَّى فيها ركلة من قدم "أدهم" في صدره، فتراجع في عنف، ليجد فوهة مسدسه مصوَّبة إليه، وخلفها "أدهم" الشاب، يبتسم في سخرية، وهو يقول في لامبالاة:
- أظننا بحاجة إلى إعادة صياغة اسم المتعجرف، فلقد تركتني بلا قيود، واقتربت مني لمسافة غير آمنة، ولم تحكم قبضتك حتى على مسدسك.. للأسف يا صاح.. أنت لا تليق بالعمل، في جهاز أمن خطير كهذا.
قال "ديمتري" في حدة:
- وأنت واهم، لو تصوَّرت أنك تستطيع الفرار من هذا المكان.
هزَّ "أدهم" كتفيه، قائلاً:
- اعتبره تدريباً ميدانياً.
فاجأه صوت صارم خشن، يقول بالإنجليزية:
- ولم لا تعتبره محاولة فاشلة.
ومع العبارة، شعر "أدهم" بفوهة مسدس باردة، تلتصق بمؤخرة رأسه، وأدرك أن السوفيت ليسوا هينين..
على الإطلاق.
* * *