على الرغم من كل ما تلقاه من تدريبات، بدا "أدهم" مبهوراً تماماً، وهو يرى الجليد السوفيتي لأوَّل مرة، وتملَّكه شغف شديد، وهو يتابع كل ما حوله، ويرصد أساليب السوفيت، وأسلوب حديثهم، وحتى طريقة نطقهم لمخارج الألفاظ،
وانتبه "صبري" إلى هذا، فربَّت على كتفه، وقال مبتسماً:
- سأتسلَّم عملي في السفارة، ثم نخرج معاً، في أوَّل جولة ميدانية لك.
أومأ "أدهم" الشاب برأسه متفهماً، وحاول أن يسترخي داخل السيارة، التي تقلهما عبر (موسكو)، إلى مبنى السفارة المصرية، في حين غرق "صبري" في لجة من الأفكار المتداخلة..
كان يدرك جيداً، كرجل مخابرات، أن ذلك التدريب الميداني شديد الأهمية، بالنسبة لكل من يقتحم هذا العالم شديد التعقيد؛ حتى يألف معايشة الواقع، ومواجهة الخطر، ويعتاد اتخاذ القرارات الحاسمة، في أصعب الظروف وأشقها، والخروج من ثقب الإبرة، كما يقولون في عالمه..
وكان يرغب بشدة، في أن يبدأ "أدهم" تدريباته مبكراً، حتى تكتمل الصورة، التي رسمها في ذهنه، منذ ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً أو يزيد..
إلا أنه، قبل كل هذا أب، يشعر بالقلق والخوف على ابنه، الذي سيُلقي به في الميدان، دون سابق إنذار، ليخوض أوَّل مواجهة فعلية له، مع عالم يراه لأوَّل مرة..
ولكن عليه أن يقاوم..
ويحتمل..
ويصبر..
هذه هي ضريبة النجاح، في العالم الذي اختاره بإرادته، والذي يحلم بأن يصبح ابنه يوماً سيِّداً له..
"هل تعرف موقع السفارة المصرية من هنا؟!.."..
ألقى "صبري" السؤال على "أدهم" فجأة، فالتفت إليه هذا الأخير في اهتمام، وانطلق عقله في سرعة، يسترجع تفاصيل خريطة العاصمة السوفيتية، التي ظلّ يحفظها ليومين كاملين، وهو يجيب:
- بالتأكيد.
ربَّت "صبري" على كتف السائق، مع هذا الجواب، وهو يقول في حسم:
توقَّف هنا.
أوقف السائق المصري الأصل السيارة، وسط الشوارع التي أغرقها الجليد، دون أن يفهم سبب هذا، فالتفت "صبري" إلى ابنه، واستنفر كل إرادته، وهو يقول له في حزم، مع فتح الباب المجاور:
- الحق بي هناك إذن.
نطقها، محاولاً السيطرة على انفعاله بقدر الإمكان، وتوقَّع دهشة عارمة من "أدهم"، أو لمحة استنكار على الأقل، لذا فقد أدهشه أن أجابه الشاب في بساطة، وهو يغادر السيارة بحركة سريعة:
- فليكن.
كانت الدهشة والاستنكار من نصيب السائق، عندما عاد "صبري" يربِّت على كتفه، قائلاً:
- هيا بنا.
نقل السائق بصره في ذعر، بين وجهي "صبري" و"أدهم"، قبل أن يقول بصوت متردِّد:
- هل.. هل سنتركه هنا؟!
أجابه "صبري" في حزم:
- سيلحق بنا.
هتف السائق، وكأنما يحاول إعادته إلى صوابه:
- إننا في قلب (موسكو)، ورجال الأمن يجوبون الطرقات، و...
قاطعه "صبري" في صرامة:
- ألم تسمعني جيِّداً؟!.. قلت: هيا بنا.
هزَّ السائق رأسه في قوة، محاولاً استيعاب الأمر، ثم انطلق بالسيارة، منفذاً الأوامر، و"صبري" داخلها، يبذل جهداً خرافياً ليبدو متماسكاً، على الرغم من قلقه الشديد على ابنه..
أما "أدهم" فقد ظلَّ في مكانه، يتابع السيارة حتى اختفت عند الناصية، فالتقط نفساً عميقاً، وراجع الخريطة في ذهنه مرة ثانية، و...
وتحرَّك..
كانت البرودة قارصة، والجليد يغطي كل شيء، ورجال الأمن منتشرون في كل الأركان، إلا أنه بدا هادئاً واثقاً، وهو يسير في الاتجاهات التي درسها مرتين، قبيل قدومه مع والده إلى (موسكو)..
لم يكن يحمل جواز سفره، أو أية أوراق تثبت هويته، ولم تكن لغته الروسية متقنة، إلا أنه، مع سيره الواثق، لم يكن يثير انتباه أحد.. فيما عدا الماجور "ديمتري"..
والماجور "ديمتري" هذا من رجال (الكي. جي. بي)، المنوط بهم مراقبة الشوارع والطرقات، والذين تلقوا تدريبات مكثفة، عالية المستوى، لكشف أي عميل أمريكي، يحاول التسلَّل إلى النظام السوفيتي..
ولقد شاهد "ديمتري" "أدهم" يسير وسط المارة، وعلى عكس رجال الأمن العاديين، لاحظ أن المعطف الذي يرتديه ليس سوفيتي الصنع، كما أن الحذاء في قدميه أفخم مما اعتادوه، وهذا يعني أنه ليس سوفيتياً على الأرجح.. وما دام ليس سوفيتياً، فالبديل الوحيد هو أنه أمريكي..
إلى أن يثبت العكس..
وفي خفة، تحرَّك "ديمتري"، وأشار إلى رجاله بمحاصرة الهدف، فتحرَّك ثلاثة منهم، لوضع "أدهم" داخل حلقة محكمة، دون أن يلفتوا انتباهه..
ثم لم يلبث "ديمتري" أن تقدَّم منه، واستوقفه فجأة، قائلاً في صرامة قاسية خشنة:
- أوراقك.
على الرغم من دقة الموقف وخطورته، ومن إدراك "أدهم" هذا، ظلَّت ملامحه هادئة تماماً، وهو ينظر إلى "ديمتري"، الذي وضع يده على مقبض مسدسه، وهو يكرِّر، في شيء من الحدة:
- أوراقك.. فوراً.
مع عبارته الثانية، انتبه "أدهم" إلى رجال الأمن الثلاثة، الذين التفوا حوله؛ ليمنعوه من الفرار، ودرس ذهنه في سرعة صعوبة موقفه، وأنهم لن يفلتوه بسهولة، فرفع أصابعه إلى فمه وأذنيه، في حركة سريعة، انعقد لها حاجبا "ديمتري"، وغمغم أحد رجاله:
- يحاول القول إنه أصم أبكم.
قال "ديمتري"، في خشونة أكثر، وهو يسحب مسدسه:
- هراء.. لن يخدعني صبي مثله.. أوراقك، وإلا نسفت رأسك فوراً.. هنا.. في الشارع.
أشار "أدهم" مرة أخرى، إلى أذنيه وفمه، فهزَّ "ديمتري" رأسه في حنق، وهو يقول:
- فليكن.. ما دمت مصراً..
وأشار إلى الرجال الثلاثة، مضيفاً في قسوة:
- أحضروه.. سأستجوبه في مكتبي.
وهنا، انقض الرجال الثلاثة على "أدهم" الشاب، وتحرَّكت سيارة أمن قريبة نحوهم، في نفس اللحظة التي استدار فيها "ديمتري" لينصرف، و...
وفجأة، تحرَّك "أدهم" بدوره..
انزلق دون مقدمات، بين أقدام الرجال الثلاثة، وانحنى يندفع من أسفل أذرعهم، ثم وثب على مقدِّمة سيارة الأمن، ومنها إلى سقفها، ثم قفز خلفها..
ومع المفاجأة، شهق الرجال الثلاثة، وارتبك سائق سيارة الأمن، واستدار "ديمتري" في حركة سريعة، ليطلق عليه النار، ولكن التفاتته، على الأرض الزلقة بالجليد، أفقدته توازنه، فسقط على ظهره في الشارع، وانطلقت رصاصته في الهواء..
أما "أدهم"، فقد هبط على الجليد خلف السيارة، وحافظ على توازنه برشاقة مدهشة، ثم انطلق يعدو مبتعداً، فصرخ "ديمتري"، وهو ينهض من سقطته، وقد تحوَّل وجهه إلى قطعة من الجمر المشتعل، من شدة الغضب:
- أمسكوا به.. لا تسمحوا له بالفرار.
وفور ندائه، انطلق الرجال الثلاثة خلف "أدهم" الشاب، واستدارت سيارة الأمن لتطارده، فوثب داخلها "ديمتري"، وهو يقول في غضب شرس:
- أريده حياً.
وبدأت مطاردة رهيبة:
في قلب (موسكو)..
* * *
"أين "أدهم"؟!.."
ألقى السفير المصري في (موسكو) السؤال في دهشة على "صبري"، فور وصوله إلى مبنى السفارة، وتابع في قلق واضح:
- أخبروني أنه سيأتي بصحبتك.
أومأ "صبري" برأسه إيجاباً، وقال:
- لقد أتى بالفعل، ولكنني أطلقته في جولة ميدانية، وسيصل وحده بإذن الله.
هتف السفير مستنكراً:
- وحده؟!.. هنا؟!.. هل جننت يا "صبري".. ابنك لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره بعد، وهذه أول زيارة له إلى (موسكو)، فكيف تتركه وحده، وسط رجال أمنها المهووسين طوال الوقت؟!
انعقد حاجبا "صبري"، وهو يجيب، في شيء من العصبية:
- وماذا لو أنه وجد نفسه في موقف مماثل في المستقبل؟!.. ألا ينبغي أن يعتاد هذا منذ الآن؟!
هتف السفير:
- في (موسكو)؟!.. لقد اخترت أصعب عاصمة، في الشرق كله يا رجل.. لماذا لم تكن رحلته الميدانية الأولى في (لندن) أو (باريس).. أو حتى (روما).
ازداد انعقاد حاجبي "صبري"، وهو يغمغم:
- قدَّر الله (سبحانه وتعالى)، وما شاء فعل.
هزَّ السفير رأسه في حدة، قائلاً:
- ونعم بالله، ولكنها مشيئتك أنت يا "صبري".. لقد كنت تعلم كل شيء عن السوفيت، وعلى الرغم من هذا، فقد ورّطت ابنك معهم.. أي رجل يقدم على هذا.
أجابه في حزم متوتر:
- رجل، يرغب في أن يجعل من ابنه أسطورة.
هتف السفير محنقاً:
- حية أم ميتة؟!
لم يكد ينطقها، حتى اندفع أحد رجال السفارة إلى المكان، وهو يقول في انفعال:
- معذرة يا سيادة السفير، ولكنها أنباء عاجلة.. لقد ألقوا القبض على "أدهم"، ابن السيِّد "صبري".
وهوى قلب "صبري" بين قدميه.
* * *