م يكد "أدهم" يلتقط المسدس، الذي طلب منه والده تنظيفه، حتى تحرَّكت يداه بسرعة مدهشة، ليفك أجزاءه كلها، ويرصها إلى جوار بعضها البعض وفي انبهار، هتف "حسن":
- مدهش.. لقد فكَّ أجزاء المسدس، في وقت قياسي بالفعل.
ابتسم "صبري" ابتسامة هادئة، وهو يقول:
- إنه يفعل هذا طوال الوقت.
هتف "حسن":
- بهذه السرعة؟!
أشار بيده، قائلاً:
- لقد تفوَّق على نحو ملحوظ، في تدريبات زيادة سرعة الاستجابة.
مطَّ "حسن" شفتيه، مغمغماً:
- مدهش!
ثم استطرد في حزم:
- ولكن فك أجزاء المسدس ليس بالأمر الصعب.. المهم كما تعلمنا، هو إعادة تركيبه.
هزَّ "صبري" رأسه، قائلاً:
- صدقني.
ثم أشار إلى ابنه، مضيفاً في حزم:
- "أدهم".
وبنفس السرعة، تحرَّكت يدا "أدهم"..
ثلاثون ثانية فحسب، وعاد المسدس كما كان..
وبمنتهى الدهشة والانبهار، هتف "حسن":
- هذا هو المدهش بحق.
ثم ربَّت على كتف "أدهم"، قائلاً:
- يبدو أنك ستثبت أنني كنت على خطأ، في خلافي مع والدك.
تساءل "أدهم" في اهتمام:
- فيم؟!
لم يحاول أحدهما إجابة سؤاله، وإنما قال "صبري" في خفوت:
- تستطيع أن تقول: إنك كنت على حق، في نصف الأمر، وكنت أنا على حق، في نصفه الآخر.. لقد نجحت التجربة تماماً مع "أدهم"، ولم تنجح قط مع "أحمد".
تلفَّت "حسن" حوله، قائلاً:
- بالمناسبة.. أين "أحمد"؟!
أجابه "صبري" بابتسامة باهتة:
- يستذكر دروسه، استعداداً لامتحان الثانوية العامة، ولكنه سيأتي بعد قليل، ليحيي معنا الذكرى السنوية لوفاة والدتهما.
تنهَّد "حسن"، وهو يغمغم:
- وهذا ما أتيت من أجله.
كان "أدهم" ينقل بصره بينهما في صمت، وهو يعيد فك أجزاء المسدس وتنظيفها، فأشار إليه والده، قائلا:
- أخبر أخاك أن موعد قدومه قد حان.
نهض "أدهم" لتنفيذ ما طلبه منه والده، فمال "حسن" نحو "صبري"، وقال في خفوت حذر:
- أنت تعلم مثلي أن كل ما اكتسبه ابنك مهارات جانبية فحسب، ومازال يفتقر إلى المهارات الأساسية، في عالمنا الخاص.
غمغم "صبري":
- أعلم هذا.
ثم نهض من مقعده، وأضاف وهو يتحرَّك في المكان، في شيء ملحوظ من التوتر:
- ولهذا لابد وأن أنتقل معه إلى مرحلة جديدة، من برنامج التدريب.
تراجع "حسن" في مقعده، متسائلاً:
- أية مرحلة؟!
التقط "صبري" نفساً عميقاً، وبدا وكأنه قد شدا ببصره بضع لحظات، قبل أن يجيب:
- مرحلة التدريب الميداني.
ارتفع حاجبا "حسن" في دهشة، وهو يقول مستنكراً:
- تدريب ميداني؟!.. في هذه السن؟!.. المفترض ألا يتم هذا، إلا بالنسبة للعملاء، في مرحلة متقدمة.
هزَّ "صبري" رأسه في حزم، قائلاً:
- "أدهم" يتقدَّم في برنامجه بسرعة، على نحو يفوق كل ما خططت له مسبقاً، وعلى عكس شقيقه، يبدو شديد الشغف والاهتمام بكل ما يتعلمه، وفي رأيي أن الوقت قد حان لخروجه إلى الميدان.
غمغم "حسن" في قلق:
- أظن هذا مبكراً، أكثر مما ينبغي.
قال "صبري":
- ولكن الظروف مواتية تماماً لهذا.. لقد بلغك بالتأكيد أمر انتدابي المؤقت، في سفارتنا في "موسكو"، و...
قاطعه "حسن"، هاتفاً:
- "موسكو"؟!.. هل تفكِّر في اصطحابه معك إلى العاصمة السوفيتية؟!.. حتى نحن لا نجازف بإرسال عملائنا إلى هناك، إلا بعد فترة تدريب كبيرة، في دول "أوربا" الغربية!!..
أشار "صبري" بيده، قائلاً في توتر:
- ولكنني سأكون هناك؛ لمساندته عند الحاجة، ثم إنها فرصة مثالية، ليتقن الروسية، التي بدأ دروسها مع الألمانية، منذ ثلاثة أشهر، و...
قاطعه "حسن" مرة أخرى في حدة مستنكرة:
- ولكن "موسكو"؟!.. أنت تعلم كيف يتعامل رجال المخابرات السوفيتية مع الجواسيس، الذين يضبطونهم في أرضهم.. وابنك، مهما بلغت مهاراته، مازال صبياً، في الخامسة عشرة من عمره، لن يصمد ساعة واحدة، أمام زبانية الـ"كي. جي. بي"، بكل قوتهم وجبروتهم وقسوتهم.
قال "صبري"، في حزم عصبي:
- لا ينبغي أن يقع في قبضتهم إذن.
أجابه "حسن" في صرامة:
- وماذا لو حدث هذا؟!
أشاح "صبري" بوجهه، قائلاً:
- الغرض من التدريب الميداني، هو أن يواجه العميل خطراً فعلياً، ويألف التعامل معه.
صاح "حسن":
- ابنك ليس عميلاً.
برز "أدهم" و"أحمد" في هذه اللحظة، والأخير يتساءل في دهشة:
- أي عميل هذا، الذي تتحدَّثان عنه؟!
استدار إليه الاثنان، في حركة واحدة، و"حسن" يبتسم، قائلاً:
- إنه أمر يتعلَّق بالعمل.
نقل "أدهم" بصره بينهما في صمت، وإن نمَّ تألُّق عينيه عن فهمه ما حدث، فغمغم "صبري"، محاولاً إدارة دفة الحديث، إلى اتجاه آخر:
- كيف حال دروسك يا "أحمد"؟!
أجابه "أحمد"، بعد تنهيدة طويلة:
- إنني أبذل قصارى جهدي، على أمل النجاح بمجموع كبير، يساعدني على الالتحاق بكلية الطب، التي أحلم بها منذ زمن طويل.
التفت "حسن" إلى "أدهم"، متسائلاً:
- وماذا عنك؟!.. هل ترغب أيضاً في الالتحاق بكلية الطب؟!
أجابه "أدهم" في سرعة:
- الكلية الحربية.
ارتفع حاجبا "حسن" في دهشة، وهو يقول:
- عجباً!.. كنت أتصوَّر أن...
لم يحاول إتمام عبارته، وإنما بترها فجأة، واستدار إلى "صبري"، قائلاً:
- مرة أخرى، سأعترف أنني أخطأت.
ثم أشار بسبَّابته، مستدركاً:
- فيما سبق فحسب.
أجابه "صبري"، في حزم صارم:
- وفيما هو آت بإذن الله.
تطلَّع إليه "حسن" لحظات في صمت، ثم قال في حنق، وهو يدير عينيه إلى "أدهم":
- فليكن.. أنت وشأنك.
لم يحاول "أدهم" التعليق على عبارته، في حين تساءل "أحمد" في دهشة بالغة:
- فيم تتحدَّثان بالضبط؟!
أجابه "أدهم" مبتسماً:
- فيما سبق فحسب.
وارتفع حاجبا "حسن"، في دهشة بالغة؛ لأن الصوت الذي نطق به "أدهم" العبارة، كان يطابق صوته هو تماماً..
وضحك "صبري" لدهشته، في حين غمغم "أحمد" مبتسماً:
- إنها هواية لا تفارقه قط.
أومأ "حسن" برأسه في صمت، ثم التفت إلى "صبري"، قائلاً:
- أظنه يحتاج بالفعل إلى تدريب ميداني.
نطقها، وأعماقه مازالت تشعر بقلق بالغ، مما قد تسفر عنه تلك الرحلة الميدانية المنتظرة..
وكانت مشاعره القلقة هذه محقة تماماً..
فالتدريب الميداني كان يخفي خطراً رهيباً..
إلى أقصى حد.
* * *