بدا "حسن" شديد العصبية والتوتر، على غير المألوف، وهو يقتحم مكتب "صبري"، قائلاً في حدة:
- ما الذي فعلته بالضبط؟!
رفع "صبري" عينيه إليه في هدوء، وهو يتساءل:
- قل لي أنت: ما الذي تتصوَّر أنني فعلته؟!
جذب "حسن" مقعداً بحركة حادة، ليجلس أمام مكتبه، قائلاً:
- ما الذي فعلته بولديك؟!
تراجع "صبري" في مقعده في بطء، متسائلاً:
- وما هو؟!.. إنني أفعل كل ما يفعله أي أب لأبنائه.. أربيهم، وأرعاهم، وأحرص على أن يتفوقوا في دراستهم، و...
قاطعه "حسن" محتداً:
- وماذا عن تلك الألعاب؟!
سأله "صبري" بنفس الهدوء:
- ماذا عنها؟!
مال "حسن" نحوه، حتى كاد وجهاهما يلتصقان، وهو يقول في توتر:
- "صبري".. إنك تجري عليهما تجربتك.. أليس كذلك؟!
صمت "صبري" بضع لحظات، وهو يتطلَّع إليه مباشرة، قبل أن يقول في بطء حذر:
- وماذا لو افترضنا أنني أفعل؟!
تراجع "حسن" بحركة حادة، ولوَّح بيده كلها في الهواء، وهو يقول:
- أنا واثق من أنك تفعل.. لقد أتيا أمس إلى عيد ميلاد ابني، وكانت المهارات التي اكتسباها واضحة.. حتى "أدهم"، الذي لم يتجاوز السادسة، كان يتصرَّف في رصانة، كما لو أنه رجل صغير.
سأله "صبري"، في حذر أكثر:
- ولماذا يضايقك هذا؟!
أجابه في عصبية:
- لقد دمرت طفولتهما.. أفسدت عليهما أجمل سنوات عمرهما.. كل ما يشغل ذهنك هو تجربتك، والنتائج التي تتوقعها منها.
أجابه "صبري" في حزم:
- لو تحققت النتائج التي أنشدها، سيتغيَّر وجه عالم المخابرات إلى الأبد.
هتف "حسن":
- وسيكون ولداك هما ضحية هذا.
رمقه "صبري" بنظرة صامتة طويلة، ثم نهض من خلف مكتبه، واتجه نحو النافذة، يتطلَّع عبرها بعض الوقت، قبل أن يقول، في لهجة امتزج فيها حزمه بلوعته:
- هل تعرف ما الذي اكتسبه كل منهما، في السنوات الثلاث الماضية؟!.. "أحمد" تفوَّق في دراسته على نحو ملحوظ، ويمكنه الآن أن يجري تجارب كيميائية، بمهارة تقارب من يفوقونه عمراً بعشر سنوات على الأقل، وتفوَّق في دراسته، على كل أقرانه.. و"أدهم".. "أدهم" لم يبلغ السادسة بعد، ولكنه يتحدَّث الإنجليزية، وبعض الفرنسية، وسرعة استجابته...
قاطعه "حسن" في حدة:
- وماذا عن طفولتهما؟!.. هل تمتعا بها؟!.. هل أمكنهما أن يركبا أرجوحة، أو يلهوان ببالون، أو...
جاء دور "صبري" ليقاطعه، وهو يقول:
- ربما لم يفعلا هذا، ولكنني منحتهما أنواعاً أخرى من الألعاب، ووسائل اللهو..
قال "حسن":
- وهذا ما يقلقني.. إنهما لا يفكران أو يلهوان، مثل أي طفل في عمرهما.. حتى ألعابهما تختلف.. ابنك "أدهم" انشغل بتقليد أسلوب كل الحاضرين وأصواتهم، بدلاً من أن يلهو مع من في مثل سنه.
تنهَّد "صبري"، مغمغماً:
- إنه موهوب في هذا المضمار.
صاح "حسن":
- موهوب؟!.. إنه طفل فقد براءته.. ما الذي تتوقعه منه، بعد عشرة أعوام من الآن.. هل سيتحوَّل إلى محتال عالمي؟!
هزَّ "صبري" كتفيه ورأسه، قائلاً:
- لست أدري ما الذي سيصبح عليه "أدهم"، عندما يبلغ السادسة عشرة من عمره، ولكنه حتماً سيكون مختلفاً عن كل من حوله.
شدَّ "حسن" قامته، متسائلاً:
- اختلاف إيجابي أم سلبي؟!
استدار "صبري" يواجهه، قائلاً في حزم:
- من يدري؟!
تطلَّع إليه "حسن" لحظات، في صرامة صامتة، قبل أن يقول:
- نعم.. من يدري؟!
واندفع يغادر المكان كله، في حدة ساخطة..
وبقى "صبري" وحده، يلوذ بالصمت بضع لحظات، قبل أن يعود مرة أخرى إلى النافذة، مغمغماً في تكرار:
- من يدري؟!
ولكن الواقع أن الفكرة كانت تعذبه..
وبشدة..
فكرة أنه - بتجربته- قد حرم ولديه طفولتهما، ودفع بهما إلى مصير لا يعلمه إلا الخالق عزَّ وجلَّ..
مصير قد يقلب حياتهما ومستقبلهما رأساً على عقب..
وإلى الأبد..
* * *
"أدهم"....
استدار "أدهم" في اهتمام، استجابة لنداء والده، الذي أشار، قائلاً:
- حان وقت تنظيف مسدسي.
ابتسم الصبى، الذي قارب الخامسة عشرة من عمره، وهو يقول في حماس:
- فوراً يا أبي.
ناوله "صبري" مسدسه، وتراجع في مقعده، يراقبه في صمت، وهو يستعيد ذكرياته..
سنوات عديدة مضت، منذ بدأ تجربته مع ولديه..
سنوات شاقة، بذل خلالها جهداً خرافياً؛ ليواصل التجربة، التي بدت للجميع جنونية..
سنوات أسفرت عن الكثير..
والكثير جداً..
لقد نمت خبرات ولديه، واكتسبا مهارات شتى، وقدرات لا يمكن أن يحظى بها من في مثل عمرهما...
ولكن "أدهم" وحده تفوَّق، على نحو ملحوظ..
ميول "أحمد" العلمية، جعلته يتفوَّق فقط في الشكل العقلي من التدريبات، وبنيته الضعيفة منعته من مواصلة التدريبات البدنية، ولعبة اكتساب المهارات..
أما "أدهم"، فقد تحوَّل إلى تلك الصورة، التي كان يحلم بها هو، منذ بداية الأمر..
ففي السنوات العشر الأخيرة، تضاعفت قدرته على التقُّمص عدة مرات، وصار قادراً على تقليد من يشاء، بدقة تثير الدهشة والإعجاب، وتفوَّق في رياضات الدفاع عن النفس، واكتسب لغات شتى، يتحدثها بطلاقة، وبلكنات أهلها، على الرغم من أنه لم يبلغ الخامسة عشرة بعد..
وعبر برنامج خاص دقيق، تعرَّف على معظم أنواع الأسلحة، وألف التعامل معها، و...
قاطعه فجأة رنين جرس الباب، فهم بالنهوض من مكانه، إلا أن "أدهم" وثب بسرعة، قائلاً:
- سأفتح أنا الباب.
بوثبة واحدة رشيقة، بلغ باب المنزل، وفتحه وهو يبتسم، قائلاً في ترحاب:
- أهلاً بعمي "حسن".
ارتفع حاجبا "حسن" في دهشة، وهو يقول:
- عجباً.. كيف تعرفتني، قبل حتى أن تفتح الباب يا "أدهم".
أفسح له "أدهم" طريق الدخول، وهو يجيب:
- لقد سمعت وقع قدميك، وأنت تصعد السلم، وبسبب إصابة ساقك، فلك وقع مميَّز، ثم أن أسلوبك في الرنين، يعتمد دوماً على أن تضغط الزر مرتين متتاليتين سريعتين، على عكس عمى "صار.."، الذي...
قاطعه "حسن" ضاحكاً:
- كفى يا "أدهم".. لا داعي لأن تبهرني أكثر.
نهض "صبري" يستقبله، مغمغماً:
- إنه موهوب.. أليس كذلك؟!
أشار "حسن" بيده، قائلاً:
- لا يمكنني الإنكار.
كان "أدهم" قد استعاد مسدس والده، فسأله "حسن" في قلق:
- ماذا تفعل بهذا المسدس يا "أدهم"؟!
أجابه "صبري" في هدوء:
- إنه يتولى مهمة تنظيفه.
أشار "حسن" بيده محذراً:
- احترس إذن، فالتعامل مع الأسلحة ليس...
وبتر عبارته دفعة واحدة، وقد اتسعت عيناه عن آخرهما..
فما فعله "أدهم" في اللحظة التالية، كان مدهشاً..
إلى حد كبير..