"أدهم صبري".. ضابط مخابرات مصري في الخامسة والثلاثين من عمره، يرمز إليه بالرمز "ن - 1"..
حرف "النون"، يعني أنه فئة نادرة، أما الرقم "واحد"، فيعني أنه الأوَّل من نوعه؛ هذا لأن "أدهم صبري" رجل من نوع خاص.. فهو يجيد استخدام جميع أنواع الأسلحة، من المسدس إلى قاذفة القنابل.. وكل فنون القتال، من المصارعة وحتى "التايكوندو"…
هذا بالإضافة إلى إجادته التامة لست لغات حيَّة، وبراعته الفائقة في استخدام أدوات التنكُّر و"المكياج"، وقيادة السيارات والطائرات، وحتى الغواصات، إلى جانب مهارات أخرى متعدِّدة..
لقد أجمع الكل على أنه من المستحيل أن يجيد رجل واحد، في سن "أدهم صبري"، كل هذه المهارات.. ولكن "أدهم صبري" حقَّق هذا المستحيل، واستحق عن جدارة ذلك اللقب، الذي أطلقته عليه إدارة المخابرات الحربية، لقب "رجل المستحيل".
د. نبيل فاروق
خيَّم صمت تام، على تلك البقعة من "باريس"، في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وأطلّ القمر بقرصه الفضي، من خلف برج "إيفل" الشهير، ليلقي أمامه ظلاً هائلاً، امتزج بظل آخر يتحرَّك في خفة، بين مبنيين كبيرين، ليلتقي بآخر، في زقاق ضيق، ويناوله حقيبة صغيرة، وهو يقول في عصبية هامسة:
- هذه هي كل الأوراق.. أين المبلغ الذي اتفقنا عليه.
أجابه الآخر، في صرامة خشنة:
- سأراجعها أوَّلاً.
تلفَّت الأوَّل حوله في عصبية، قبل أن يهمس:
- أسرع إذن.
وبينما يراجع الثاني الأوراق، ظهرت بضع ظلال أخرى، تتحرَّك في نشاط وسرعة، وبمنتهى الخفة والحذر؛ لتحيط بالرجلين، على نحو دقيق مدروس، قبل أن يهمس أحدهما:
- سنهاجم الآن.
مع قوله، تحرَّكت الظلال كلها، مندفعة نحو الرجلين، من ثلاثة اتجاهات مختلفة، و..
"خيانة.."..
هتف الرجل الثاني بالكلمة في غضب، واستل مسدساً ضخماً من حزامه، وصوَّبه نحو الأوَّل، الذي اتسعت عيناه في رعب هائل، وتراجع هاتفاً:
- لا.. لست..
ولكن الثاني ضغط الزناد، فانطلقت من كاتم الصوت رصاصة صامتة، اخترقت منتصف جبهة الأوَّل، الذي سقط جثة هامدة كالحجر، في نفس اللحظة التي هتف فيها أحد المنقضين:
- استسلم وإلا..
قبل أن يتم عبارته، استدار إليه حامل المسدس، وأطلق نحوه عدة رصاصات، ثم اندفع محاولاً الفرار، بالحقيبة التي أحضرها الأوَّل، ولكن أحد المنقضين أطلق نحوه رصاصاته، محاولاً تعطيله.. ولكن الرجل وثب وثبة مدهشة، وتجاوز حافة الرصيف، وحاول أن يختفي في زقاق آخر، فهتف منقض آخر:
- لو فر سنخسر كل شيء..
وهنا، صوَّب الكل مسدساتهم نحو الرجل الثاني، وعلى الرغم من كراهيتهم لإنهاء العملية على هذا النحو، لم يجدوا أمامهم سوى إطلاق النار.. نحو الهدف مباشرة..
كانت هناك حتمية لمنعه من الفرار بالحقيبة، مهما كان الثمن..
وعلى الرغم من وثبته الماهرة، حصدته رصاصاتهم حصداً، وأصابته في مقتل، فهوى عند مدخل الزقاق، ويده مازالت تمسك بالحقيبة..
وبقفزة واحدة، بلغه أحدهم، وانحنى ينتزع الحقيبة من يده، في نفس اللحظة التي ظهرت فيها سيارة شرطة فرنسية، لاحظ أحد ركابها ما يحدث، فهتف:
- ماذا تفعلون هناك؟!
وفي لحظة واحدة، تفرَّق الرجال كما انقضوا، وانطلقوا في اتجاهات مختلفة، وذابوا وسط الظلام والظلال، فاندفع رجال دورية الشرطة خلفهم، محاولين اقتناص أحدهم..
ولكن الرجال اختفوا تماماً في المنطقة المحيطة، ولم يتركوا خلفهم سوى جثتين..
جثتين من جنسيتين مختلفتين تماماً..
"خطأ.. ما حدث خطأ"..
هتف العميد "صبري" بالعبارة في غضب، وهو يدق سطح مكتبه بقبضته، فالتفت إليه زميله "حسن"، وهو يقول في قلق:
- ما الخطأ بالضبط يا "صبري".. لقد استعدنا الوثائق السرية، ولم نخسر سوى ذلك الخائن، وأمكننا كلنا العودة إلى "مصر" في أمان.
قال "صبري" في مرارة:
- لم يكن ينبغي أن يتم الأمر على هذا النحو.. صحيح أننا استعدنا الوثائق، ولكننا لم نعرف من وراء هذا الفعل بالضبط.. لقد اضطررنا لقتل جاسوس العدو، ولقي الخائن مصرعه أثناء العملية، وكل هذا لأننا كنا أكثر مما ينبغي.
غمغم "حسن":
- كنا ثلاثة أفراد فحسب.
لوَّح "صبري" بذراعه، هاتفاً:
- ثلاثة أفراد لمواجهة رجلين.. حسبة فاشلة وخاسرة يا رجل.. كنا ثلاثة، لأن "وليد" لا يجيد الفرنسية، وأنت لا تعدو بسرعة مناسبة، وأنا الوحيد الذي يمكنه معرفة جواسيس الأعداء..
هزَّ "حسن" كتفيه، قائلاً:
- لا تنسَ أننا جهاز مخابرات وليد، ومهاراتنا لم تكتمل بعد.
هتف "صبري":
- وهذا أكبر خطأ.. كان كلاهما من الرعيل الأوَّل لرجال المخابرات، الذين أسسوا المخابرات العامة، وكلاهما يسعيان لاكتساب كل المهارات والخبرات اللازمة؛ لمواجهة أجهزة المخابرات العدوة، التي تتحرَّك بمنتهى الشراسة والعنف، لوأد رجال الثورة، الذين أشعلوا فتيل حماس للحرية، في منطقة الشرق الأوسط كلها..
وفي محاولة لتهدئة الأمور، غمغم "حسن":
- لست أدري أين يكمن الخطأ بالضبط؟!
أجابه "صبري" في حزم:
- الخطأ في أن كلا منا يلم بمهارتين على الأكثر، ويعتمد على الآخرين، في باقي المهارات والخبرات.
قال "حسن" في حيرة:
- هذا أمر طبيعي؛ فاكتساب مهارة واحدة يحتاج إلى زمن طويل للغاية، وليس من الممكن أن يكتسب شخص في عمرنا أكثر من مهارتين أو ثلاثة، لو كان موهوباً.
أشار "صبري" بسبَّابته، قائلاً:
- هذا لأننا نبدأ تدريباتنا في سن متأخرة.
ضحك "حسن" في توتر، وهو يقول:
- سن متأخرة؟!.. إننا نبدأ تدريباتنا فور التحاقنا بالكلية الحربية يا رجل.. من يمكنه أن يفعل أفضل من هذا؟!
بدا "صبري" شارداً، وهو يغمغم:
- ولكن هذا لا يكفي.. من الواضح أنه لا يكفي.
تطلَّع إليه "حسن" بضع لحظات في صمت، قبل أن يميل نحوه، متسائلاً:
- "صبري".. فيم تفكِّر بالضبط؟!
بدا "صبري" أكثر شروداً، وهو يجيب:
- في أن الأمر يحتاج إلى تطوير.. تطوير كبير..
ولم يناقشه "حسن" فيما يدور في ذهنه، وإن أصبح واثقاً من أن زميله يبحث عن فكرة ما..
فكرة مجنونة..
تماماً..
* * *
"وجدتها.."
هتف "صبري" بالعبارة في حماس، وهو يندفع داخل مكتب "حسن"، الذي رفع عينيه إليه في هدوء، لا يتناسب مع الموقف، وسأله:
- ما التي وجدتها يا "أرشميدس" زمانك؟!
أجابه "صبري" بنفس الحماس:
- الفكرة التي كنت أبحث عنها.
تراجع "حسن" في مقعده، متسائلاً، في شيء من الحذر:
- أية فكرة؟!
جذب "صبري" مقعداً، وجلس إلى جواره، قائلا في انفعال واضح جارف:
- فكرة إنتاج رجل المخابرات المثالي.
لم يسترجع عقل "حسن" الأمر على الفور، لذا فقد قال، وقد تضاعف حذره:
- لو أن لديك فكرة تتناسب مع ما طالب به المدير الجديد، فيمكنك أن..
قاطعه "صبري" بحماسة:
- المدير الجديد طلب منا البحث عن وسائل لتطوير أداء الجهاز، ولكن فكرتي تعتمد على تطوير رجل المخابرات نفسه.
هزَّ "حسن" كتفيه، وقال:
- يبدو لي الأمران متقارنين.
هتف "صبري":
- كلا.. لأن فكرتي لا يصلح تنفيذها على أي رجل مخابرات، ممن يعملون في الجهاز، أو حتى ممن تم ترشيحهم للعمل فيه.
تضاعفت دهشة "حسن"، وهو يقول:
- ما الذي يعنيه هذا بالضبط؟!
أجابه في حماس:
- قل لي أنت أوَّلاً: ما العقبة التي تحدثنا عنها، عندما طرحت عليك فكرة رجل المخابرات، الذي يجيد كل المهارات الممكنة؟!
أجابه "حسن"، فور انتهاء كلماته:
- إنه لن يجد الوقت الكافي لبلوغ ما تأمله، وإذا ما نجح، واكتسب كل ما تحلم به من مهارات، سيكون عمره قد بلغ مرحلة، يعجز فيها جسده عن طاقة قدراته، مع تقدمه في العمر.. باختصار، لا يمكنك -منطقياً- أن توازن بين الخبرة والقوة، مهما فعلت.
أشار "صبري" بسبَّابته، قائلاً:
- إلا لو بدأنا تدريباته في سن مبكرة.
هزَّ "حسن" رأسه، قائلاً:
- أي سن مبكرة؟!.. التدريبات التي تتحدث عنها، والخبرات التي تنشدها، بالمستويات المطلوبة، لا يمكن أن يكتسبها شخص مثابر، إلا بعد عقدين من الزمان، على الأقل، وعبر تدريبات شاقة لا تنقطع، فلو افترضنا حتى أنه بدأ تدريباته هذه في العشرينات من عمره، فسيبلغ الأربعين، قبل أن يمكنه الاستفادة منها، وفي عالمنا، يبدو لي هذا سن تقاعد، لا سن انطلاق.
بدت ابتسامة "صبري" غامضة، وهو يقول:
- وماذا لو بدأ في العاشرة؟!
غمغم "حسن"، مندهشاً ومستنكراً:
- العاشرة؟!.. ألا تعتقد أن..
قاطعه "صبري"، في حماس متزايد:
- وماذا عن الخامسة؟!
اتسعت عينا "حسن" عن آخرهما، قبل أن يهز رأسه في عنف، قائلاً:
- "صبري".. لو أن لديك وقتا للمزاح، فوقتي اليوم لا يسمح بـ...
قاطعه "صبري" في حسم:
- الواقع أنني أجد أن الثالثة سن مناسبة أكثر.
حدَّق "حسن" فيه باستنكار شديد، وهتف:
- "صبري"!..
أضاف "صبري" في سرعة، قبل أن يمنحه فرصة التعليق:
- ولتفادي الجدل، فأنا جاد تماماً.
هتف "حسن" في حدة:
- الجدل؟!.. ومن سيجادل مجنوناً مثلك؟! إنك تتحدَّث عن إعداد طفل مخابرات، لا رجل مخابرات.
أجابه "صبري":
- على العكس تماماً.. إنني أتكلم عن إعداد رجل مخابرات فائق، لا يشق له غبار، في عالمنا شديد التعقيد هذا، ولقد درست الأمر جيداً، ووجدت أن إعداده لابد وأن يبدأ مع سنوات عمره الأولى.
اتسعت عينا "حسن" عن آخرهما، وهو يغمغم:
- رباه!.. إنك جاد بالفعل.
ثم اندفع يستدرك في عصبية:
- ولكنك لم تفكِّر جيداً، كيف يمكنك أن تدرِّب طفلاً، تعلَّم السير بالكاد، ولم ينطق جملة متكاملة بعد، على مهارات ينبغي أن يكتسبها رجل مخابرات.
أجابه في سرعة وحماس:
- باللعب.
تراجع مصعوقاً، وهو يحدِّق فيه، فتابع بنفس الحماس:
- مجموعة من الألعاب، يتم وضعها وترتيبها بعناية بالغة، بحيث تبدو ظاهرياً ممتعة للطفل، ولكنها تكسبه مهارات أساسية، في سنوات عمره الأول، التي يكون فيها أشبه بالإسفنج الجاف، الذي يمتص في شراهة كل ما يلقى عليه.. والأطفال يكتسبون المهارات في سرعة ويسر، وخاصة مع برنامج تدريبي علمي ومتدرِّج، بحيث تتطوَّر المهارات والخبرات، مع كل عام يمضي.
حدَّق "حسن" فيه ذاهلاً، وهو يتمتم:
- وهل يمكنك أن تدربه على القتال، والتحدُّث بلغات مختلفة، و..
قاطعه "صبري" متحمساً:
- والرماية، وركوب الخيل، وقيادة المركبات... إنني أتحدَّث عن سنوات عديدة يا رجل، وسيدهشك كم يمكن أن يكتسب الجسد البشري، إذا ما تم إعداده على نحو جيد مدروس.
غمغم "حسن"، وهو يفكِّر في عمق:
- أنا أعلم هذا.
قال "صبري":
- أراهنك أنه سيصبح تحفة فريدة، قبل أن يبلغ العاشرة من عمره.
انعقد حاجبا "حسن"، وهو يقول:
- ولكن فكرتك تحوي ثغرة يا "صبري".. ثغرة كبيرة جداً.
واستمع إليه "صبري"..
وكان على حق..
الفكرة تحوي ثغرة...
هائلة.
* * *